الفوائد الصحية للصيام

 

الفوائد الصحية للصيام

المعلوم أن للصوم فوائد طبية كثيرة، وهو يعتبر علاجا لمعظم الأمراض، ولكن  يجب ألاّ يكون هذا هو الهدف من الصوم. صحيح أن لكلّ العبادات فوائد، فالصلاة لها فوائد كثيرة، والصوم أيضا فوائده كثيرة، ولكن المؤمن لا يصلّي ليحصل على فوائد الصلاة، ولكن يصلّي لأن الله سبحانه وتعالى فرض عليه الصلاة. وهو لا يصوم ليشفي أمراضه بالصوم، ومن فعل ذلك بطل ثواب صيامه، لأنه لا يصوم للّه ولكنّه يصوم من أجل العلاج، إنّما يصوم استجابة لأمر الله عز وجلّ. فحديثنا عن الفوائد الصحية للصيام لا يجعلنا نغفل عن قول الله سبحانه وتعالى: { من كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر} البقرة 184، إذ لو كان الصيام علاجا لكلّ الأمراض -كما يقول البعض – ما كان الله أباح للمريض أن يفطر، بل كان قد فرض عليه الصيام على أساس وأنه علاج لكلّ الأمراض.

وهذا القبول بالصيام، والإستعداد النفساني والوجداني له، عنده تأثير كبير لدى الإنسان السليم، إذ هو يكيّف جسده لهذا الحدث الهام. فقد بيّن العلم الحديث أن عنصر النية قبل الصيام مع الإقتناع بجدواه يزيل الشعور بالجوع والعطش. كما تؤكد الأبحاث العلمية أن الحوامض التي تفرزها المعدة في وقت الغذاء عند الشخص الذي نوى الصيام وقبِلَه بكلّ اقتناع تضمحلّ، وهذا الشخص نفسه إن صام بدون نيّة وبدون استعداد نفساني إما في شهر رمضان أو في حالة الإمتناع عن الطعام بدون صوم تفرز معدته الحوامض بصفة طبيعية ممّا يلحق الضرر بها. فالنسق الغذائي يتغيّر في شهر رمضان، ويصبح بالليل بعد أن كان بالنهار، ويلاحظ الصائم بعد مضي ثلاثة أيام من الصوم تعوّد جسمه على ذلك، هذا ما أيدته الدراسات المختصة في هذا الميدان، فقد تبين أنّ نسق إفرازات الجسم يتغير ابتداء من اليوم الثالث من الصيام حتى يكون متماشيا مع النظام الغذائي الجديد. وقد بيّن العلم الحديث أيضا أنّ ما جاء به الإسلام في تحريم الأكل تحريما قطعيا ليس تعسيرا وتعقيدا على الصائمين، بل في ذلك حماية لهم، إذ يكفي أن تمسّ اللسان ذرّة واحدة من الطعام عمدا حتى تثار كلّ الإفرازات المعديّة وتتحرّك الكثير من العوامل الفيزيولوجية التي تحدث الضرر بالجسم.

فالمعدة -إذن- هي المستفيد الأول من الصّيام، حيث أن الراحة المفروضة على عضلات المعدة طوال 14-16 ساعة في اليوم، وهو معدّل الصيام في الـ 24 ساعة، تمكّن المعدة من استرجاع الكثير من قدرتها على تحمّل عمليات الهضم عند حلول الإفطار، وتكون المعدة أكثر فاعلية على تفكيك الأغذية مهما كانت دسامتها.

ونفس الإستراحة تحدث لعصارات الأمعاء المكلّفة بهضم الطعام، ولكن الأهمّ أنّه في الحالات العادية يوجد خلف بشرة الأمعاء جزء هام من نظامنا الدفاعي يطلق عليه اسم “صفائح بَيَّار” Plaques Payer التي تكون -أثناء الصوم- أكثر وأعظم وأرفع قدرة على مقاومة الإعتداءات والأمراض التي تدخل الجسم عن طريق الجهاز الهضمي.

وللكبد دور كبير في عمليات الهضم وتطهير الجسم من الرواسب السامة، وهو يقوم بوظائف هامة أخرى لا تحصى ولا تعدّ، لعلّ أبرزها خزن نسبة هامة من سكريات الطعام لاستعمالها كمدّخر عند الحاجة (صوم، رياضة، مجهود عنيف…)؛ لكنّ المهم في رمضان أن الصوم يجنب الكبد مشقة هذا الخزن المرهق والمتواصل بدون انقطاع، فتحصل على إجازتها السنوية، على الأقل في فترة النهار حيث يمنع الأكل والشرب.

وللصوم فضائل كبيرة على الشرايين، فالتصلّب الشرياني الذي يصيب عادة من تجاوزوا  الأربعين، ناجم عن تكدّس الفائض من الحريرات عن الحاجة عبر السنين الطويلة، لكن شهر الصيام المبارك يحدّ من هذا التصلّب ويبطئ تكوّنه وذلك بحرق الفائض من الأغذية وتطهير الجسم من الرواسب الضارة التي قد تعكّر وتضاعف من خطورة هذا التصلب الذي يهدد سلامة الدورة الدموية وتدخل المصاب في أمراض مزمنة قد تهدّد حياته في كل لحظة من عمره نتيجة الإصابة بإحدى النّوبات القلبية أو المخية.

وللصوم فضائل على الجلدة، فهو يطهّر الجلدة -كما الجسم- من الرواسب الضارة، وخاصة الجلدة الدهنية التي تكثر فيها إفرازات مادّة الزُّهم sebum ممّا يشكّل سببا قويّا للقضاء على مرض “حب الصبا” لدى الشباب أو على الأقلّ التخفيف من حدّته، وهو ما يشعر به المعنيون بالأمر وينقلونه لنا. كما أنّ بعض الأطباء الطبيعيين يحدّدون الصيام على الأكل فقط مع السماح لمرضاهم بشرب الماء مدّة 3 إلى 5 أيام متتالية لبعض المصابين بالأكزيما الخطيرة التي تفشل أمامها العقاقير الكلاسيكية فيحدث لها بعض التحسّن.

كما يمكّن هذا الشهر المبارك بعض الأشخاص من تأمين احتياجهم الكافي من الحديد والزلال والفيتامينات نتيجة تنوع أفضل للطعام ورغبة أكثر للأكل في هذا المحيط العائلي الجديد، فتكون النتيجة ازدهار حالتهم الصحية خاصة إذا كانوا من المصابين بفقر الدم أو بأحد أمراض سوء التغذية من قبل هذا الشهر المبارك.

كما يشكّل شهر رمضان المعظم فرصة للسمان والمصابين بالنحافة حتى يعدّلوا شاهيتهم إلى الأعلى أو إلى الأسفل حسب الحالة التي يشكون منها فيتمكنون من مراقبة أوزانهم بطريقة أيسر من أي وقت آخر.

فرمضان المعظم إذن مناسبة للبدين حتى يتقيد بالقواعد الصحية التي وضعها له طبيبه فيخفف الله من وزنه، وهي كذلك فرصة للنحيف حتى يحاول كسب بعض الكيلوغرامات الزائدة، وفي كلتا الحالتين يمكن لهذا الشهر المبارك أن يحقق ما عجزت عنه الأدوية الكيمياوية المشكوك في نجاعتها وذات المضاعفات الخطيرة على الصحة.

ولشهر رمضان أيضا تأثير على الإرادة والعزيمة، فما نلاحظه أنّ بعض المسلمين المدمنين على الكحول أو التدخين أو على إحدى المنبهات أو المخدّرات يتمتعون بعزيمة وإرادة صلبة طيلة هذا الشهر المبارك تمكّنهم من تجنب هذه المواد المدمرة للصحة لمدّة معينة تعجز عن تحقيقها أحدث الأدوية المستعملة في هذا المجال. وقد اندهش علماء الغرب من عزيمة المدمن المسلم الذي يستطيع الإنقطاع فجأة ولمدّة شهر كامل على الأقل عن تعاطي الكحول دون ظهور الأزمات التي يعرفونها والتي تؤدي إلى الهزات العنيفة والجنون وربّما إلى الإنتحار في بعض الأحيان. وقد ذكر لنا المرحوم الدكتور سليم عمّار “أنّه لاحظ مرارا عديدة أنّ هؤلاء المدمنين يتمكنون من الفطام بدون قلق شديد ويستمر شفاؤهم من هذا الإدمان بعد رمضان سيما إذا اهتدوا للصلاة أو لأداء فريضة العمرة”. وأضاف: ” وقد تعوّدنا بإجراء عملية الفطم الطبية قبيل شهر رمضان بشهر أو شهرين لندعم هذا الفطم ونقوّي الإنعكاسات الشرطية التي نكوّنها عند هؤلاء المرضى ضد الكحول من خلال إقامة ناجعة بالمستشفى لهذا الغرض”.

وللصوم تأثير أيضا على الغدد الجنسية في الذكور. فقد نشرت مجلة “الغدد الصماء والإستقلاب الإكلينيكية” في العدد 53 عام 1981، بحثا لمجموعة من العلماء والأطباء، قاموا فيه بدراسة هذا الموضوع. وقد أجريت الدراسة في مستشفى ماستشوست بالولايات المتحدة على ستة أشخاص أصحاء بدينين، وتتراوح أعمارهم بين 26 و45 عاما. وقد قسمت الدراسة إلى ثلاث مراحل:

       1- المرحلة الأولى: للتقويم، وتستمر ثلاثة أيام

       2- المرحلة الثانية: فترة الصوم، يصوم هؤلاء الأشخاص صياما كاملا لمدّة عشرة أيام، والصيام يعني عدم تناول أي طعام أو شراب لا بالليل ولا بالنهار، ما عدا الماء القراح الذي يسمح بتناوله ليلا ونهارا.

       3- المرحلة الثالثة: إعادة التغذية، وتستمر لمدة خمسة أيام.

وقد أجري فحص الدم لمعاينة الهرمونات الجنسية في الأيام التالية:

       1- اليوم الثاني: أثناء فترة التقويم

       2- اليوم الحادي عشر: أي أثناء فترة الصيام، والتي توافق اليوم الثامن للصيام

       3- اليوم السادس عشر، أي : اليوم الثالث من إعادة التغذية.

ويعاد فحص الدم بعد تنبيه الغدة النخامية بواسطة هرمون (LRH)، وذلك في اليوم الثالث، واليوم الثاني عشر، واليوم السابع عشر. وقد درست الهرمونات الجنسية التالية:

       1- هرمون الذكورة، التستوستيرون (testostérone )

       2- الهرمون المنبه للجريب (FSH)

       3- الهرمون الملوتن (LH)

يعتبر الهرمون المنبه للجريب، والهرمون الملوتن، من الهرمونات المنمية للغدة التناسلية.

وقد كانت نتائج البحث كالتالي:

       1- انخفاض هرمون الذكورة “التيستوستيرون” انخفاضا كبيرا أثناء الصوم، واستمر الإنخفاض لمدة ثلاثة أيام بعد إعادة التغذية، وفي اليوم الرابع من إعادة التغذية، ارتفع مستوى هذا الهرمون ارتفاعا كبيرا، بحيث تجاوز مستواه الطبيعي قبل الصوم.

       2- ازداد إفراز الهرمونات المنمية للغدة التناسلية في البول، لكلا الهرمونين، الهرمون المنبه للجريب (FSH) والهرمون الملوتن (LH) بصورة كبيرة أثناء الصوم واستمر ذلك ثلاثة أيام بعد انتهاء الصوم.

       3- ازداد إفراز الهرمون الملوتن (LH) في الدم أثناء فترة الصيام، وهو أمر متوقع نتيجة انخفاض إفراز هرمون الذكورة “التيستوستيرون”

       4- انخفض الهرمون المنبه للجريب (FSH) أثناء الصوم، وكان المتوقع أن يزداد الإفراز، ولعلّ ذلك يوضح أن تأثير الصوم تأثير محدود في خفض القدرة الجنسية.

وهذا الشيء الذي أثبته العلم حديثا آمنّا به نحن المسلمين منذ خمسة عشر قرنا. فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». قال النووي في شرح مسلم: ” الوجاء بكسر الواو وبالمد وهو: رض الخصيتين. والمراد هنا: أن الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شر المني، كما يفعله الوجاء”. وهذه معجزة نبوية أخرى، أثبتها العلم الحديث.

والصوم يجلي الفكر أيضا، فالعمل الفكري لا يحتاج  إلى طاقة، والصوم يدعّم الذاكرة ويزيد في الإنتباه، ولذلك لا يشكل الصيام عائقا أمام التلاميذ والطلبة في إعداد الإمتحانات، ولا كل العاملين بالفكر في ممارسة أعمالهم بصورة طبيعية.

أما المشتغلون بسواعدهم، فالأمر مختلف حسب طبيعة العمل. فكل عمل يحتاج إلى طاقة تناسب شدته، وهذه الطاقة يقدّمها الجسم ويوفرها الغذاء. فالصوم يأخذ من العامل الشاق مأخذا هذا لا شك فيه، ورغم هذا يمكن للعامل أن يصوم حتى يستفيد من منافع الصوم المتعدّدة والتي أثبتها العلم الحديث. فالحرارة الشديدة أو البرد الشديد لهما نفس الإنعكاسات على الحاجات الغذائية: ففي الحالة الأولى يحتاج الجسم إلى الماء وفي الحالة الثانية إلى الغذاء. يجب أن يكون السحور عند هذا العامل أكلة كاملة متكاملة وتفوق أكلته في الإفطار. كما يجب أن يكون عمله أقرب ما يكون إلى وقت الإمساك أي باكرا.

ولا بدّ من كلمة عن الصوم والنموّ. فقد فرض الإسلام الصوم من البلوغ فصاعدا، وهذا يرتكز على أسس علمية أثبتها العلم في القرن العشرين، حيث أن النموّ الحاسم لتركيز جودة الإنسان يبدأ من بطن الأم ويتواصل إلى سنّ السادسة ثم إلى الحادية عشرة. ومن الثانية عشرة إلى العشرين يعتبر النمو كإكمال بناء ثبتت أسسه. حينئذ يستطيع المراهق أن يصوم وتنطبق عليه نفس النصائح وسلوك الصوم التي يقرها العلم اليوم مع التأكيد على الأهمية الكبرى لنوعية السحور ووقت تناوله. وأحسن أكلة للمراهق قبل الإمساك هي المسفوف التونسي المتركّب من حليب مع كسكسي وسكر. ولا بأس أن تضيف له بعض الفواكه الجافة (إن أمكن) مثل الزبيب. أما الكمية فيجب أن تفوق 30 % على الأقل حاجيات الكهل العادي. ويعتبر الصوم فرصة لتركيز شخصية المراهق وتقويم سلوكه الغذائي، فهو أول مرّة ينظر فيها إلى طعامه.

والصوم ممكن لدى المرأة الحامل إذا توفرت لها احتياجاتها وعرفت حسب حملها ما هي هذه الإحتياجات. فقد أجمع الأطباء أن المرأة الحامل يجب أن تأكل لا كإثنين وإنّما لاثنين، وخاصة من ناحية النوعية وحسب عمر الحمل. ويكون الصوم مطلوبا أكثر لدى الحامل المصابة بالسمنة، إذ ينخفض بالصوم وزنها فتصبح ولادتها سهلة لها ولجنينها. ولكي لا يشق عليها الحمل، فالحامل مطالبة بعدم الإرهاق، وتجنّب الحرارة حتى لا يزيد عطشها، كما هي مطالبة بعدم السهر مع الإلتزام بالسحور مؤخرا.

أمّا المرضع فوضعها خاص جدا: إذ لا يمكن اعتبارها مريضة حتى نقول لا حرج على المريض، ولا يمكننا بالمقابل غض النظر عن التأثيرات الكبيرة للرضاعة على كيانها، في الوقت الذي بات العلماء والأطباء يفضلون الرضاعة الطبيعية ويحضون عليها لأهميتها المتزايدة. من أجل ذلك يفضّل أن تؤجل المرأة المرضع صيامها لأيام أخر كما قال القرآن الكريم، ولكن على شرط أن يكون فطرها صحيحا وتاما من ناحية الغذاء والشراب، أي ليست في وضع بين الصيام والفطر كما تعوّدنا أن نرى دائما بين أظهرنا للأسف الشديد.

والشيخ قادر على الصيام، وفي صيامه فائدة، مثله مثل سائر الصائمين من الشبان والكهول. ولكن ذلك لا يجعلنا نغفل عن تقدير امكانياته الجسدية، ولو في غياب الأمراض. فالصحة تتدهور شيئا فشيئا عند الشيوخ، ويصبح بعضهم غير قادر على تحمّل الجوع والعطش. ويجب على طبيبهم المباشر أن يرشدهم إلى الموقف الصحيح حسب مرحلة شيخوختهم، وحسب الفصل الذي يحلّ فيه رمضان، وحسب قدرة جسدهم على التحمّل. وللشيخ أن يفطر دون حرج، بل قد يصبح الصيام خطرا على صحّته وينبئ بالتهلكة، في حين أننا مأمورون بألا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة.

       وبعد، فإنّ كلّ ما أوردناه شيء يسير ممّا نعلمه عن الفوائد الصحيّة للصّوم، والتي لخصّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «صوموا تصحّوا». فالصوم عن الشهوات المادية من وقت الإمساك إلى حلول موعد الإفطار عند غروب الشمس لا يقصد من ورائه الحرمان أو الضرر بصحة الصائم المسلم، بل العكس هو الصحيح لأنّ الصوم لا يفرض إلا على الشخص المسلم المتمتع بصحة جيّدة أو المريض الذي يكون صيامه نوعا من المعالجة للداء الذي يشكو منه (مثل البدين أو النحيف  كما أشرنا سابقا) . كما أن المولى سبحانه وتعالى منع الصوم على المسافر إذا كان هذا السفر شاقا وفيه ضرر على الصائم وهذه كلها دلائل تؤكّد أنّ الله عزّ وجلّ لا يريد بعباده العسر كما يدعي البعض. فكلّ ما أوردناه يبيّن أنّ منافع الصوم الصحية عديدة لا تحصى ولا تعدّ وأنّ السنوات القادمة ستكشف لنا المزيد من محاسن الصوم، نتيجة البحوث الميدانية عند المسلمين الغيورين، ولم لا تصدير نتائج هذه الأبحاث الموضوعية للغرب، حتى لا نبقى مستهلكين لما يأتينا من عند غيرنا فقط.

       وقبل أن نختم هذه المداخلة، نودّ التذكير بأننا تحدّثنا عن فوائد الصوم للأصحّاء الأسوياء، أمّا المرضى فربّما نفرد لهم مداخلة أخرى إن شاء الله لاحقا. ولكي يكون بحثنا متكاملا لا بدّ من تعريف صحيح لمفهوم “الصحة”. ونعتقد أنّ أحسن تعريف لذلك هو ما قاله أحد الحكماء من أنّ “الصحة هي تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى”. أما المنظمة العالمية للصحة فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك فقالت “بأن الصحة الجيّدة لا تعني خلوّ الجسد من الأمراض والعاهات فحسب، بل يضاف إلى ذلك التوازن العقلي والتناسق بين الجسم والوسط الإجتماعي والبيئة التي يعيش فيها الإنسان السليم”. وربّما نفهم التباين في مواقف الفقهاء من المرض (أو الصحة) انطلاقا من ضبابية هذا المفهوم وعدم تدقيقه. فلفظة “مريضا” في الآية الكريمة جاءت عامّة ويمكن أن تكون جلبابا فضفاضا يدخله أيّ داخل. فالمرض الذي يجيز الفطر عند مالك والشافعي  وأبي حنيفة هو المرض الذي تلحقه المشقة إن صام فيه أو يخاف زيادته. وقال أحمد: هو المرض الغالب. وقالت الظاهرية: إذا أطلق عليه اسم المريض أفطر. وسبب اختلافهم: هل المراد بالآية مطلق المرض الذي تلحق صاحبه المشقة، أو المرض المتعارف بين الناس أنه يقال لصاحبه مريض. والراجح: ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}. يقول ابن حجر في فتح الباري: ” اختلف السلف في الحد الذي إن وجده المكلف جاز له الفطر، والذي عليه الجمهور أنه المرض الذي يبيح له التيمّم مع وجود الماء، وهو إذا خاف على نفسه إذا تمادى على الصوم، أو على عضو من أعضائه أو زيادة في المرض الذي بدأ به أو تماديه”. وعن ابن سيرين: “متى حصل للإنسان حال يستحق بها اسم المرض فله الفطر”. وقال عطاء:” يفطر من المرض كله”. وعن الحسن والنخعي: “إذا لم يقدر على الصلاة قائما يفطر”.

ودون تفصيل أو إطالة نورد أهمّ الأمراض المبيحة للفطر، والتي لا يمكن بوجودها اعتبار الشخص صحيحا:

       1- أمراض القلب: كالجلطة الحديثة، والذبحة الصدرية غير المستجيبة للدواء، وقصور الشريان التاجي، وهبوط القلب، والحمى الروماتزمية الحادة، واضطراب النبض، ارتفاع ضغط الدم الخطير

          2- أمراض الصدر: الإلتهاب الرئوي الشعبي، حالات السل الحادة، حساسية الصدر (الربو)، النزلة الشعبية الحادة

           3- أمراض الجهاز الهضمي: تليف الكبد، القرحة الحادة والمزمنة في المعدة أو الإثني عشر، مرض الإسهال الحاد، أو المزمن

       4- الحميات: كالحمى التيفويدية، الحمى المالطية، الإلتهاب الكبدي، الإلتهاب السحائي، الحصبة، الجدري الكاذب، التهاب الغدد اللمفاوية.

       5- أمراض الكلى: التهاب الكلى، البولينا، القصور الكلوي الحاد والمزمن

       6- الأمراض النفسية: الصرع، الفصام

       7- أمراض الغدد الصماء والإستقلاب: السكري صنف 1، القصور الكظري…

       8- أمراض العيون: الغلوكوما أو المياه الزرقاء، مرض الشبكية السكري.

 والطبيب الثقة هو الوحيد الذي يتولى تشخيص الحالة والنصح بالصوم من عدمه. وإذا كان الصيام عميم الفائدة للسليم المعافى فهو قد يؤدّي بالمريض إلى الموت أو تفاقم مرضه. والله بنا لطيف ولا يرضى لعباده الضرر، ولا فائدة في المكابرة والعناد إذا كان هناك داع حقيقي وعلمي، فالمسائل الآن لم تعد ظنية، بل علمية يقينية في أغلب الأحيان.

الدكتور جلال الدين رويس

دار الثقافة بمساكن

في 23 نوفمبر 2001

facebook

اترك تعليق