التلميذ والتوعية الصحية

التلميذ والتوعية الصحية

إعداد الدكتور جلال الدين رويس

         ليس من شك أن التوعية الصحية اختيار صائب في المعاهد الثانوية، وما تقوم به النوادي الصحية المنتشرة في أغلب المؤسسات التربوية تعد منابر للإطلاع والتحاور حول مواضيع تمس الشباب من قريب أو تهمهم في مستقبل حياتهم. وقد لاحظنا أن المواضيع المطروحة يندر التطرق إليها داخل المجتمع، وكثيرا ما تروج عنها أفكار مسبقة وآراء مجانبة للصواب، أو لا يقع الخوض فيها إلا عند حصول حالات مرض أو وفاة في المحيط العائلي وما يتبع ذلك من تفاسير ومطارحات متشنجة وغير علمية.

         خذ مثلا أمراض القلب والشرايين -المحور الرئيسي لهذا العام في يوم الصحة المدرسي-: من منا لم يصادفه قريب أو صديق لم تصبه الذبحة الصدرية، أو الجلطة القلبية،  أو انسداد عروق الأطراف، أو السكتة الدماغية التي تسبب الشلل النصفي؟ إذا نظرنا إلى التعاليل المألوفة بيننا وجدناها تنصرف إل عامل الكبر في السن أو التشنج العصبي أو الوراثة وغير ذلك من العوامل الهامشية، في حين أن العلم الحديث أثبت بما لا يدع أي مجال للشك أن التدخين والسلوك الغذائي (مثل التبذير في الأكل والمبالغة في تناول السكريات والنشويات والزيتيات وكذلك الملح الزائد) والسمنة وقلة الحركة والنشاط زيادة على الضغوطات الكبيرة للحياة المعاصرة هي الأسباب الحقيقية وراء تفشي هذه الأمراض الخطيرة، والتي تعتبر في بلادنا السبب الرئيسي الأول للوفاة. وقد حاولنا لفت انتباه الشبان والفتيات إلى ضرورة الإمتناع نهائيا عن التدخين والإعتدال في الأكل وضرورة النشاط البدني طوال الحياة وتجنب الضغوطات والإنفعال ما أمكن حتى يتجنبوا الوقوع في الخطر والإصابات المقعدة أو المميتة، خاصة إذا علمنا أن الترسبات الدهنية داخل العروق فعل طويل المدى بطيء التكون ولكن خطره داهم وضرره كبير لا يجبر بحال متى حصل. 

         وحين ألفينا اهتماما بمسألة التدخين، ولم يكن الوقت متسعا للتوضيح والتعمق رأينا إفراده بحصة حاولنا خلالها أن نطلق صفارة الإنذار ونتأسف على العدد المهول من التلاميذ الذين أصيبوا بداء التدخين، والذي يعتبر إدمانا تسببه مادة النيكوتين فيه، وليس من عضو في البدن إلا ويتأثر سلبا بالتدخين انطلاقا من اللثة واللسان والأسنان مرورا بالبلعوم والمعدة والرئتين وصولا ألى الشرايين والقلب والدماغ، حتى أن أغلبية الأمراض المزمنة والمميتة يشارك التدخين في وجودها أو مضاعفة خطرها على الأنسان مثل ضيق التنفس والإلتهابات المزمنة للرئتين وقرح المعدة والإثني عشري والذبحة الصدرية والجلطة القلبية والسكتة الدماغية وانسداد الأوردة وضعف المناعة العامة ونقص الشهية والضعف الجنسي والتشوه الجنيني وما إلى ذلك مما يضيق المجال بتعداده… ولقد أكدنا على السيجارة الأولى التي لا يجب تناولها إطلاقا لا مجاملة ولا تجريبا ولا مماهاة ولا مماراة… وحسرتنا على من ابتلي به صغيرا لأنه يصعب التحلص منه كهلا ويساهم في خراب جسمه وانهياره ثم موته المبكر كبيرا… تلك هي القاعدة والشاذ قليل وهو يحفظ ولا يقاس عليه… وكل الإحصائيات تؤكد رأينا ولكن أغلب المدخنين يظنون أن “لا يحصل مكروه إلا للآخرين”، أوليس هو أيضا من هؤلاء الآخرين؟؟.

         ثم كيف لا نحدث الشبان عن السيدا، مرض العصر، الذي يبقى في بلادنا محدودا -والحمد لله- إلا أن التوعية ضرورة تنبه الغافل وتعلم الجاهل وتذكر العالم. والحاصل في هذا المجال أن العفة مركب الأمان وأن الواقي نجاة لوضع الشبهة والمجهول، وأن انتقال العدوى بحقنة المخدرات قليل نادر ببلادنا ولكن لا بد من الإقتصار في استعمال الحقن على المعقم منها المعد للإستعمال الواحد لتجنب كل مشكل، وأن الأمان في بلادنا أكيد في مجال نقل الدم ومشتقاته التي تخضع لكبير التحريات ودائم اليقظة.

         وبمناسبة الحديث عن نقل الدم كان لا بد من المساهمة مجددا- وككل عام- في توعية التلاميذ حول أهمية التبرع بالدم، في الوقت الذي لا يتجاوز عدد المتبرعين 3 %  من مجمل الشعب التونسي، والحال أن الإحتياج للدم ومشتقاته كبير ويومي وفي بعض الحالات حياتي، يموت المحتاج له إن لم يسعف بكمية من الدم تكون في بعض الأحيان نادرة صعبة المنال. هل تخلو عائلة من مريض يعالج بالجراحة، أو حريق، أو مصاب في حادث مرور ينزف بغزارة، أو حامل تضع مولودها فتتعكر حالتها بنزيف حاد، أو محتاجين لعمليات نقل دم دورية بسبب أمراض وراثية أو مكتسبة  مزمنة أصابتهم… وما إلى ذلك من الوضعيات التي قد تحدث لكل إنسان… ولا شك أن التبرع بالدم لا ضرر البتة منه للبدن إذا أثبت الفحص المسبق سلامته وقدرته على العطاء، إذا كان سن المتبرع بين السادسة عشرة والستين، 3 أو 4 مرات في العام. وقد لاحظنا التجاوب الذي حصل من التلاميذ في هذا العام وما اكتسبه المعهد من سمعة طيبة لدى الهلال الأحمر وبنك الدم من أجل ذلك، مما يشرف إدارة المعهد والمربين ونادي الصحة الذي ساهم بقسطه في التوعية.

         وعندما تحدثنا عن الإدمان في حصة التدخين أحسسنا برغبة عند المواظبين على الحضور في النادي برغبة في التعرف على أثر المخدرات على الجسم ومدلول كلمة الإدمان ومؤداها. وهو  يمثل هاجسا كبيرا وخاصة في المجتمعات الأوروبية المتقدمة (أين تستهلك ترفا) و بعض البلدان الفقيرة (أين تستهلك هروبا وبحثا عن أحلام وأوهام كاذبة). وخطر المخدرات كبير جدا يستوعب كل ما ذكرناه آنفا بالنسبة للدخان ويضيف إليه الإدمان الكامل الذي يصبح المستعمل عبدا وأسيرا للمادة المخدرة، مما ييسر طريق الجريمة والإنحراف للحصول على تلك المادة والتي تزداد كميتها كل يوم، وينتهي حتما إلى التهميش والعطالة داخل المجتمع نتيجة الضرر البدني الحاصل منها، ثم الهلاك في أكثر  الحالات في نهاية المطاف. والمتأمل لحالة المدمن يلاحظ الدمار الذي يصنعه بنفسه ماديا وصحيا وعقليا، والدمار الذي يصنعه بمجتمعه الذي يحتاج لكل طاقاته، فما ألجأ العاقل إلى هذا؟. من أجل كل هذا وجب الإمتناع عن تناول الجرعة الأولى أو الشمة الأولى أو الحقنة الأولى ولو كان ذلك على سبيل التجربة والعلم بالشيء لا غير، إذ أن الإدمان طريقه سهل ولكن التخلص منه عسير مكلف وغير ممكن في كثير من الأحيان.

         كنا نشعر في كل حصة أن ما يقدم والنقاش الذي يحصل شديد الإفادة، وكنا نتمنى أن ينتبه من لا يحضر إلى مافاته من علم وتثقيف وتوجيه… كنا نسعد خاصة لكثافة الحضور عموما والحضور الأنثوي خصوصا،  لأن للمرأة الدور الريادي الأول في الأسرة وتأثيرها كبير في الأبناء…

         عسى أن تكون الإفادة تامة. وعمرا طويلا لنادي الصحة بهذا المعهد الريادي…

الدكتور جلال الدين رويس- ماي 1998

facebook

اترك تعليق