الصّحة … في مرحلة الشيخوخة

الصّحة … في مرحلة الشيخوخة

         تعتبر النجاحات الكبيرة والعناية الفائقة بالصحة في بلادنا ريادية في العالم النامي، ونتج عنها ارتفاع ملحوظ في السنّ الؤمّل للحياة الذي أصبح يتجاوز السبعين عاما حاليا. وهذا الوضع الصحي الجديد أفرز شريحة عمرية تتضخم يوما بعد يوم ألا وهي شريحة الشيوخ(حوالي 8″ من مجمل السكان). ومعها برزت مشاكل جديدة وجب حلّها، والحلول تتنوّع ولكنها تسعى جميعها لتوفير أقصى ظروف الراحة والعيش الكريم لمن أفنوا شبابهم وكهولتهم في خدمة المجتمع وتنشئة الجيل الصاعد. ونحسب أن العيش الكريم لا يتحقق إلاّ بصحّة جيّدة. وطب الشيخوخة (GERIATRIE) اليوم مطلب ملحّ واختصاص فرض نفسه في البلدان الرّاقية ولا نخاله إلاّ كذلك عندنا في القريب المنظور. فما هي مبرررات هذا التوجّه؟

         الإجابة تتلخّص في التلميحات المختصرة التالية عن الأمراض والعلل التي تتكاثر عند المسنّين لتقدّمهم في السن وظهور العديد منها في مثل هذه المرحلة من العمر. وأهمّها -في نظرنا- ما تعلّق بالشرايين، التي تصيبها السنون بالتصلّب والضيق ويزيدها ضررا التدخين والعادات الغذائية السيئة والصدمات النفسية وبعض الأمراض الأخرى كالسكري وضغط الدّم… ممّا قد يسبّب الذبحة الصدرية والجلطة القلبية التي قد تكون قاتلة، والجلطة الدماغية المسببة للشلل النصفي وفقدان الحركة والنطق والفهم، وانسداد الأوردة في الأطراف التي قد تؤدّي إلى بترها… كلّ ذلك يحتم مراقبة دقيقة لكل مسنّ تبدو عليه علامات مرضية ملفتة، ولو كانت شديدة البساطة:

         * فآلام الصدر المتكرّرة والمتصرّفة للذراعين والفكين وخاصّة عند التّعب البدني تستوجب القيام برسم للقلب وكشوف على الأوردة التاجية بالقلصدة وغيرها ومتابعة دورية وأدوية منتظمة؛

         * والآلام الحادّة المتواصلة مع الشعور بدنوّ الموت وتصبّب العرق والدّوخة تستوجب الإسراع فورا بنقل المريض للمستشفى لعلاجه الفوري ممّا يمكن أن يكون جلطة قلبية، والتي إن لم تعالج فورا قد تتعكّر بمضاعفات قاتلة ؛

         * والدّوخة مهما كانت خفيفة مدعاة للحذر، إذ أنها قد تخفي انسدادا تدريجيا للعروق الدماغية التي تؤدّي إن انعدم العلاج والمراقبة إلى الجلطة الدّماغية ذات العواقب الوخيمة، إذ يصبح المريض عالة على عائلته، مرتبطا بغيره، فاقدا لكل استقلالية في حياته اليومية؛

         * و آلام الأطراف أثناء المشي أو الصعود في الدّرج ونعاس الأطراف وتنميلها وميلان لونها إلى الزرقة … يلفت الإنتباه للدورة الدموية في الأطراف، ويدعو إلى التنبيه لضرورة الإنقطاع الفوري عن التدخين الذي ثبت قطعيا الآن تدخله في تعطيل الدّورة الدّموية وما يؤول إليه من مضاعفات كلّنا في غنى عنها في سن الشيخوخة ولا ريب.

         وجميع ما تقدّم تزداد خطورته بإصابة المسنّ بأحد المرضين الخطيرين التاليين:

         * فمرض ارتفاع ضغط الدّم يستدعي المراقبة والمداواة والحياة الهادئة البعيدة عن الضغوط النفسية والبدنية وكذلك التخلّص من الطعام المملّح كما تعوّدنا في بلادنا، فملح الطعام يستدعي كميات كبيرة من الماء من الخلايا ومختلف الأجهزة في الجسم إلى الأوردة الدّموية ممّا يرفع من الضغط فيها مسبّبا في تعكّرات كثيرة تخصّ الدّماغ (الجلطة المخية) والكلى (قصور كلوي) والقلب (قصور قلبي) الخ… وعادة ما يكفي تخليص المائدة من ملح الطعام حتى يستقرّ ضغط الدّم؛

         * ومرض السكري المنتشر بيننا  يحتّم إلى جانب العلاج الخاص به، حمية مستديمة تتلخّص في تجنب كافة المواد السكرية الحلوة والفواكه الجافة والغلال الحلوة جدا كالعنب والتمور والتين والمواد الزيتية أو الدّهنية وخاصة المقليات بأنواعها وكذلك التحكم في الكميات بحيث يحبذ تناول فطور صباح غني وغداء مغذي متوازن وعشاء خفيف… كلّ هذا يستوجب التحرّي والمراقبة وكثيرا من الصبر من المسن ومن محيطه العائلي.

         وطب الشيخوخة يعتني أيضا بالجهاز التنفسي الذي يبقى هشا قابلا لعديد الأمراض المزمنة الناتجة خاصة عن التدخين وبعض المهن الخطيرة وكذلك بعض العوامل الوراثية التي يطول شرحها، والأمثلة على ذلك كثيرة: الربو (الفدة)، التهاب القصبات الهوائية المزمن، توسع القصبات الهوائية المزمن… وأهمّ النصائج -إلى جانب الإنقطاع الفوري عن التدخين- الحذر من التغيير المفاجئ للطقس والتوقي من المجاري الهوائية والمعالجة الفورية لكل نزلة أو سعال أو ضيق في التنفس… ما لم يقع ذلك يسقط المسنّ في التعكرات التي من أهمها انتفاخ القلب وقصوره في عمله لنقص في عملية التنفس، وهو ما يعجّل في النهاية لكثير منهم بالوفاة؛ ويهمّنا أن نشير في هذا المجال إلى ضرورة القيام بالتلاقيح المتوفرة وفي أوقاتها لتجنب الإصابة بأمراض رئوية.

         ويبقى دور الكليتين هامّا جدّا في التوازن الجسدي، إذ تقومان بتصفية ما يعادل 180 لترا يوميا من الدم والسوائل داخل الجسم وتخليصها من السموم والفضلات. والقصور الكلوي المؤدّي للفشل الكلوي متفشيان عند الشيوخ، وتساهم في ذلك الأمراض الكبرى المشار إليها أعلاه مثل السكري وارتفاع ضغط الدم وتصلّب الشرايين… يضاف إليها الحصوات الكلوية وتضخم غدّة البروستاتة عند الرجال الذان يساهمان أحيانا في حصول هذا القصور الكلوي. فوجب حينئذ التنبيه لضرورة المراقبة والمداواة في الإبّان لتجنّب كلّ ذلك، و أهمّ نصيحة هو أن يواضب المسنّ على شرب كمّيات كافية من الماء يوميا إلاّ في حالات خاصّة يقدّرها الطبيب.

         أمّا أهمّ ما لاحظناه من معاناة عند الشيوخ فهو ما تعلّق بآلام المفاصل والعظام الناتج عادة عن التقدّم في السن: فالعظام يصيبها “الوهن” لنقص الكالسيوم والفيتامين”د” فيها، والمفاصل ينقص “زيتها” و”تتهرّى” حواشيها… كلّ حسب طبيعة عمله ووزنه  وسنّه… وبالرغم من وجود هذه الآلم وحدّتها أحيانا فخطرها قليل، وعلى المسنّين شرب الحليب أو مشتقاته، والمواضبة على الحركة (وخاصّة المشي) ولو كانت قليلة،  إذ العبرة بالدّوام، وتجنب السقوط أو الإرتطامات التي قد تؤدّي للكسور والتي يصعب في هذه السنّ جبرها وعادة ما تخلّف العجز أو الحدّ من الحركة…

         ومن أهمّ المواضيع أمراض السرطان المنتوعة والمتفاوتة الخطورة. وللحقيقة فهي أقلّ انتشارا عند المسنّين منها عند الشبان والكهول، ولكنها عندما تصيبهم تضعُف أجسادهم عن مقاومتها وعادة ما تسرع بنهايتهم. والمطلوب بالخصوص التفطن بسرعة لهذه الأمراض، فكلّما كان الكشف سريعا كلّما كان العلاج أنجع. فإذا لاحظ أحدنا أنّ المسنّ عزف عن الأكل، ونقص وزنه، وأصابه الضعف والوهن وجب الكشف عليه والبحث عن كلّ تغير أصاب أي جهاز من أجهزته المختلفة… فيقع تشخيص المرض بما يتوفر الآن من تجهيزات ووسائل كشف متطورة يحق لنا الإفتخار بها في بلادنا، ثمّ يقع العلاج فيتوقف انتشار المرض وتخفّ الآلام عند المصاب.

         وأخيرا لا يمكن أن نختم هذه المداخلة السريعة والمقتضبة في مجال شديد التداخل والتعقيد، دون الإشارة إلى الجانب النّفسي الذي يعاني منه الكثير من المسنّين: فمنهم من يعاني من فقد قرينه، ومنهم من تخلّى عنه أولاده وأقاربه، ومنهم من فقد كلّ مورد وأدار لهم الزمان ظهر المجنّ، ومنهم من أنهكه المرض وتبرّم بالدنيا ورغب في الموت، ومنهم من مات كلّ أترابه وتبدّلت الدنيا عليه فلا الأصحاب أصحابه ولا الجلساء أترابه… كلّ هؤلاء محتاجون لمن ينصت إليهم، ويحنو عليهم، ويساعدهم على حلّ مشاكلهم… فإذا عجزوا أمكن للطّبيب التدخّل بالمداواة النّفسية والكيميائية.. ولكن ذلك لا يتمّ إلاّ بحضور الأقارب والمحيطين بالمسنّ…                                                 

الدكتور جلال الدين رويسمساكن في4 ماي 1999

facebook

اترك تعليق