السّيجارة … الصّديقة اللّدود

السّيجارة … الصّديقة اللّدود

    لا شكّ أنّ التّدخين مشكلة المشاكل في عصرنا الحاضر بالنسبة للأفراد والجماعات مهما تباينت واختلفت في نهاية هذا القرن. وما قيام السّلطات والجمعيّات في كافّة أرجاء المعمورة بحملات إعلاميّة ضدّ التّدخين وتخصيص يوم 31 ماي من كلّ سنة كـ« يوم عالمي بدون تدخين» إلاّ اتفاق عالمي صريح على الضّرر الحقيقي الذي يسبّبه هذا السم الزعاف. فمنذ أن دخلت نبتة التبغ إلى أسبانيا والبرتغال سنة 1518 إثر التعرّف عليها عقب اكتشاف العالم الجديد بأمريكا والنّاس في أوروبا -ومنها إلى كلّ البلدان التي استعمرتها لاحقا ثمّ إلى بقية أصقاع العالم- مقبلون على استهلاكها بشراهة لا توصف في أشكالها المختلفة من سيجارة وسيجار وغليون ونفّة وشيشة وغيرها والحال أن لا فروق بينها في الضّرر الحاصل منها. وعلى الرّغم من احتوائها على مادة النيكوتين التي لا تختلف في شيء عن بقية المخدّرات الممنوعة بحكم تسبّبها في إدمان المدخّن عليه؛ فإنّه لم يَنَلْ التّدخينَ ما نال بقية المخدّرات من منع ومحاصرة ومقاومة. والثّابت يقينا الآن -وبعد دراسات معمّقة وعلميّة شملت الآلاف إن لم نقل الملايين من المدخّنين ولمدد زمنية طويلة تسمح بالحكم عليه- أنّه كارثة صحّية ثابتة للمدخّن ومحيطه الذي يشاركه التّدخين مضطرّا سواء بالنّسبة للنّساء والأطفال بالمنزل أو للآخرين في مواقع العمل والتّرفيه والعبور. من أجل ذلك مُنِعَ التدخينُ في كثير من الدّول المتحسّسة لخطورة الوضع في الأماكن العامّة والتي يرتادها النّاس بكثرة.
    وتتسبّب مختلف مكوّنات التبغ في أضرار بالغة بالصّحّة نوجزها فيما يلي:
    * النّيكوتين Nicotine : مادّة عضوية معادلتها الكيميائية (C10M14N2) وهي تؤثّر على الجهاز العصبي وتثير القشرية الدّماغية. ويختلف تأثيرها من شخص إلى آخر، فتؤثر على البعض تأثيرا مسكّنا، فتجلب لهم الهدوء إن كانوا متوتّرين، وعلى البعض الآخر تأثيرا مهيّجا، فتجعلهم أكثر قدرة على التّركيز إذا ما كان جهازهم العصبي في مرحلة من الهدوء والسّكينة. كما يؤثّر النّيكوتين على أعضاء أخرى في البدن كالقلب والشرايين، فهو يسبب تقلّصات لهذه الشّرايين التي تسبّب الذّبحة الصّدرية. ويكون ذلك مؤكّدا إذا أضفنا إليه النّقص الذّي يسبّبه التّدخين في كمّية الأكسيجين في الجسم كما سنبيّن.
    * أوّل أكسيد الكربون Monoxyde de Carbone : ينتج عن احتراق التّبغ بصورة غير كاملة أثناء التّدخين، ويمتزج بالدّم ليؤلّف مركّبا غير قابل للتفكّك Carboxyhemoglobine وذلك على حساب الأكسجين، ممّا يسبّب تغييرا تدريجيّا لتركيبة دم الإنسان ولو جزئيّا بعد مدّة طويلة. وثبت أنّ نسبة تركيز هذه المادّة يمكن أن يصل إلى 13 % عند المدخّن الذي يستهلك أكثر من 25 سيجارة يوميّا. والنقص في الأكسجين في الجسم يضطرّ القلب وشرايينه، والحواس وشرايين الأعضاء السفلى إلى عمل مضاعف وذلك لاستعادة الإيقاع الطبيعي لمجرى الحياة وللدفاع عن الجسم. وهو ما يسبّب لها الإرهاق ويعرّضها لأمراض وحوادث خطيرة قد تودي بحياته أحيانا. كما تضعف من قدراته الجسمية والتناسلية والجنسية أيضا. وبالإضافة لكلّ هذا يمثّل نقص الأكسجين الذي يغذّي الدّماغ عاملا مساعدا إضافيا لدى المدخّن – الذي له استعداد- للإصابة باضطرابات الذاكرة والخرف المبكّر واضطرابات النظر وارتجاف الأطراف والصّداع وانخفاض نسبة التفكير والقدرة على الإبداع والتركيز وسرعة ردّات الفعل العصبية فضلا عن اضطرابات السمع والذوق والشم… ونقص الأكسجين يؤثر أيضا على جمال البشرة وطراوتها بل وثابت أن عمر المدخّن ينقص عن نظيره غير المدخّن بسنوات عدّة… ولا يسلم الجنين من الأذى إذا كانت أمّه مدخنة أو تتأذى بدخان زوجها فيولد غالبا ناقص الوزن ضعيف المناعة سهل الإصابة بالأمراض… فما أحوجنا إلى كلّ هذا وما ألجأنا إليه؟
    * الموادّ المؤذية المختلفة: مثل أرسنيك الكحول والأحماض والفينول والأمونياك الخ… التي تهاجم الطبقات الرقيقة في الفم والحنجرة  والجهازين الهضمي والتنفسي، وتسبّب في توقف عمل الشعيرات التي تغطي أنسجة هذه الأجهزة، والتي تهتزّ بصورة مستمرّة لتنظيف المجاري التنفسية العليا وطرد كلّ ما هو مؤذ أو خطر. عمل هذه الشعيرات يضعف عند الدخّن المتوسط (دون 10 سجائر في اليوم) ويصبح معدوما عند المدخّن الكبير (أكثر من 20 سيجارة في اليوم) ممّا يؤدّي إلى تزايد إمكان الإصابة بالأمراض التنفسية كالتهاب الرئتين أو ربّما سرطان الرئة وكذلك انتفاخ الأنسجة السفلية للرئتين Emphysème. ألا ترى أنّ لا مدخّن يسلم  من السّعال واللّهاث وضيق النّفس والرّئتين المرهقتين بأثقال رواسب التبغ؟.
    * القطران : Goudron تتجه الأبحاث العلمية إلى إثبات تسبّب القطران في تحوّل الأنسجة السليمة إلى أنسجة سرطانية. وإذا كانت النتائج لم تكن دائما متطابقة تماما حول علاقة سببية يقينية بينهما فإن الثّابت بإجماع أن التدخين إجمالا يسبب في تكاثر واستفحال الإصابة بالسرطان خاصة في الجهازين التنفسي والهضمي.
من أجل كلّ هذا وغيره ممّا ضاقت به المساحة المتاحة تشتدّ دعوتنا للكفّ فورا عن التدخين للمدخّن، وعدم خوض التجربة ولو على أساس حبّ الإطلاع لغير المدخّنين. فالسيجارة تجرّ أخرى والمدخّن المتوسّط قد يصبح مدخّنا كبيرا، ومدخّن المناسبات قد ينقلب إلى مدمن… وإذا كان التدخين عند الكهول معيبا فهو عند الصّغار والمراهقين أعيب. وهو عند البنات والنساء أشدّ ضررا وأقبح أثرا، سواء على أنفسهن أو على أبنائهن.

الدكتور جلال الدّين رويس

facebook

اترك تعليق