كلمة بمناسبة اليوم العالمي لمرضى السكري

اليوم العالمي لمرضى السكري

في 14 نوفمبر من كل سنة، يحتفل المجتمع الدولي باليوم العالمي لمرضى السكري.
وما إقامة يوم لهؤلاء المرضى إلا دليل على أهمية الموضوع، واستفحال هذا المرض، وانتشاره في سائر المجتمعات على وجه البسيطة مهما تنوعت أعراق الناس فيها ومستواهم الثقافي والمعيشي وعاداتهم الغذائية.
ولا شك أن تخصيص هذا اليوم يدخل في إطار التحسيس ومزيد العناية بهؤلاء المرضى الذين يمثلون نسبة عالية مقارنة بأمراض أخرى خطيرة ولكنها أقل انتشارا في تلك المجتمعات.
والسكري مرض عرفته البشرية قديما، ولكن ما زال العلم لم يتمكن من فهم أسبابه الحقيقية، بالرغم من الخطوات العملاقة التي تحققت في وسائل الكشف والعلاج والعناية. وهناك أبحاث كثيرة في مخابر عالمية كبرى تواصل بذل الجهد للسيطرة على هذا المرض الخطير لاسيما بمضاعفته. وهناك أموال طائلة تصرف وطاقات بشرية كبيرة تحبس نفسها على هذا المرض.
ولسائل أن يتساءل لماذا كل هذا الجهد؟. والجواب بسيط ولكنه يستدعي التأمل.
لقد خبرت المرضى لسنوات عديدة في عيادتي، ورأيت منهم تهاونا لا ينسجم مع خطورة هذا المرض. الكثير منهم لا يقبل الأمر الواقع، ويتجاهل مرضه، ويمانع في استعمال الأدوية واتباع نصائح الطبيب، ويؤخر القيام بذلك، مدعيا أنه سيتبع علاجا تقليديا “دواء عربي” سيغنيه عن الوسائل الحديثة للعلاج. ومنهم من يقبل بمرضه، ويحاول التعايش معه، ويتبع في البداية نصائح الطبيب وأخصائي التغذية، ولكنه سرعان ما تفتر عزيمته، وينقص انضباطه، ولا ينتبه -عادة- لفداحة سلوكه إلا عند حصول المضاعفات، والتي تكون أحيانا خطيرة وربما حتى قاتلة، عافانا وعافاكم الله.
وقد علمتنا التجربة، أنه لا يمكن بحال تفادي المضاعفات التي يسببها السكري، مهما قمنا به من مداواة وحمية وحفظ لصحة مريض السكري، وأقصى ما يمكن القيام به هو تأخير تلك المضاعفات، ومعالجتها في الإبان عند الكشف عنها في المراقبة الدورية. تحصل هذه المضاعفات بعد عشرة سنين من التأكد من وجود المرض عند المصاب به إذا امتنع عن المداواة والتزام حمية معينة وطريقة عيش تتلاءم مع مرضه، وقد تطول هذه المدة إلى ضعفها وثلاثة أضعاف وربما أحيانا حتى أكثر إذا وقع التحكم في المرض بالعلاج اللازم والمراقبة المكثفة.
والسكري يثبت عند المريض إذا وجدنا له في تحليل دمه نسبة تفوق 1 غرام فاصل 40 مللي غرام، مهما كان وقت ذلك التحليل بقطع النظر عن كونه كان صائما أم لا. فإذا وجدنا ذلك طُلب منه إعادة التحليل صباحا على الخواء تماما، فإذا كانت النتيجة أكثر من 1 غرام فاصل 26، مع تحليل لنسبة المخزون السكري (Hémoglobine glucosylée) أكثر من 6.5 % ، فيمكن حينئذ تشخيص المرض، وإعلام المريض بذلك فورا.
هذه هي الشروط التي نصصت عليها المنظمة العالمية للصحة، وتستوجب علاج المريض فوريا باعتماد طرق رئيسية ثلاث:
العلاج الدوائي médicaments
الحمية régime alimentaire
طريقة العيش hygiène de vie ، وتتضمن خاصة المجهود البدني والرياضي effort physique et sportif .
ولكي تنجح عملية التحكم في السكري فلا مناص من تعاون وثيق بين:
مسدي الخدمات الصحية، ولاسيما طبيب العائلة (الطبيب المباشر)، وطبيب أو أخصائي التغذية، والطبيب الأخصائي لمرض السكري، وكذلك أطباء الاختصاص للقلب والشرايين، وأمراض الكلى، والعيون، والأعصاب خاصة.
المريض نفسه، وهو الذي سيواظب على تناول الأدوية، وسيلتزم بالنصائح الغذائية، وسيقوم بالمجهود البدني الضروري واللازم، وسيداوم على مواعيده مع أطبائه والمختصين حسب حالته الصحية… ولا يمكن لأي كان أن يقوم مقامه في فعل كل هذا.
المحيط العائلي، ولاسيما القرين، والذي سيساعد كثيرا في مراقبة التزام المريض بالمنوال العلاجي المطلوب، وإعانته عليه سواء في الحمية أو النشاط البدني أو المراقبة الطبية وما إلى ذلك.
المجتمع المدني، من خلال جمعيات متخصصة في العناية بمرضى السكري، خاصة في مجال التغذية، والتثقيف الصحي، وتبادل الخبرات بين المرضى أنفسهم وبينهم وبين مسدي الخدمات الصحية، وأيضا المساندة النفسية للمتضررين من هذا المرض وما أكثرهم وما أحوجهم في كثير من الأحيان للسند المعنوي والنفسي قبل المادي. وهذا المجال ما زال فقيرا وقليلا وقليل الفاعلية الواقعية في بلادنا، بخلاف البلاد الأوروبية وأمريكا. فإنه لا يكفي احتفال بيوم سنوي، ثم لا شيء، بل لا بد من نشاط دائم ومتقارب ولكافة المرضى ما أمكن. هذا مجال بكر فهل من مبادر؟.
لقد علمتني التجربة أنه ما لم تتعاون كل هذه الأطراف فإن معركتنا مع مرض السكري ستكون خاسرة، وأحيانا جسيمة جدا. والصندوق الوطني على التأمين على المرض، الذي يتكفل كفالة تامة بالأمراض المزمنة الخطيرة في بلادنا، جعلت من رمز هذا المرض 001 ، لأنه حقيقة المرض الأول من حيث الخطورة.
فما هي أهم مخاطره، يا ترى؟. يمكن تلخيصها في المخاطر التالية:
1) ارتفاع أو انخفاض حاد في السكري: فالارتفاع الكبير في كمية السكر في الدم، الذي قد يتسبب في الإغماء، وحتى الموت أحيانا. كما يمثل الانخفاض الحاد للسكر أيضا أحد المخاطر لمن يتناولون عالاجا خاصة. وقد شهدنا حالات إغماء وموت ناتجة عن هذين السببين، ويعود ذلك لعدم العلاج وتجاهل المرض أو لأخطاء علاجية يمكن تلافيها بالمراقبة.
2) التعكرات القلبية والوريدية: والتي تتمظهر في الذبحة الصدرية والجلطة القلبية أو الدماغية، وانسداد الأوردة الدموية في الأطراف التي قد تؤدي لبتر الأعضاء ولاسيما بالقدمين…
3) التعكرات الكلوية: حيث يؤدي السكري إلى قصور كلوي يستوجب حصص “التصفية الدموية” hémodialyse مع ما ينتج عن ذلك من مشاكل صحية واجتماعية وتأثير على حياة المريض وشغله…
4) التعكرات البصرية: حيث يؤثر السكري في شبكية العين وقد تصاب العين بالنزيف والعدسة بالكثافة… وكل ذلك يؤدي شيئا فشيئا إلى فقدان البصر، عفا الله الجميع.
5) التعكرات العصبية: حيث تتأذى الأعصاب لاسيما في الأطراف السفلية والعلوية، بحيث تقل حساسية اللمس، ويكثر الألم أوالإحساس بالحرقة المتواصلة…مما يؤدي لمعاناة دائمة ومضاعفات كثيرة ولا سيما بالقدمين
6) كثرة الأمراض الجرثومية: ذلك أن السكري يضعف كثيرا المناعة الجسدية للمريض، مما يسبب أمراضا جرثومية متنوعة: الفيروسية مثل النزلة الوافدة (القريب)، والجرثومية (مثل التهاب القصبات الهوائية، والإسهال المزمن، والتهاب المجاري البولية، الالتهاب المزمن في الأعضاء التناسلية للمرأة، والأمراض الجلدية المختلفة: البثور، الدمل، تعفن الجروح الخ…)، وكذلك الفطرية (مثل فطر الفم muguet buccal، والفطر الجلدي mycose cutanée…).
من أجل كل ذلك وغيره، وجب علينا جميعا الانتباه لهذا المرض، والبحث عنه، والمسارعة بمداواته، وإقناع المريض بخطورة مرضه، الذي يبدأ في البداية صامتا، لا ألم كثير فيه، غير أنه ما يلبث أن يكشر عن أنيابه، ويعضّ صاحبه أحيانا بطريقة قاتلة يصعب معالجتها حينئذ.
وهناك جملة من العوارض التي توجب الانتباه والبحث عن وجود المرض عند من يحملها جميعا أو حتى بعضا منها، نجملها سريعا فيما يلي:
العطش الشديد وكثرة شرب الماء، حتى ولو كان الطقس باردا، وإن لم يقم الشخص بمجهود بدني كبير.
كثرة التبول، ولاسيما في الليل (يقوم أكثر من مرتين في حصة نوم ليلية بست ساعات).
الفشل البدني (الوهن) المزمن، ويعتبر الضعف الجنسي المستجد، خاصة لدى الرجال من أهم العلامات التي تستوجب البحث عن السكري.
السمنة وخاصة المفرطة منها .
كثرة الأمراض الفيروسية والجرثومية والفطرية وتواترها أكثر من اللزوم.
الآلام في الأطراف، والصعوبات في المشي (ضرورة التوقف بعد مسافة تتقلص يوما بعد يوم)
ضعف البصر، خاصة المستجد.
أمراض القلب مثل الذبحة الصدرية أو الجلطة القلبية
– الجلطة الدماغية أو الإصابة الدماغية العرضية
– ارتفاع السكري لدى الحمل عند النساء
العامل الوراثي: أي وجود أحد الأقارب وخاصة من الأصول (أب، أم، جد، جدة…) مصاب بالسكري.
– تعرض المريض لصدمة نفسية أو مشكل عويص في حياته يجعله يعيش تحت الضغط…
في كل هذه الحالات يجب أن يبادر المريض بعرض نفسه على الطبيب، الذي سيقوم بالتحاليل اللازمة، وسيتولى القيام باللازم إذا ثبت وجود السكري عند هذا المريض.
ولا شك أن تحسن مستوى المعيشة، وقلة الحركة، وزواج الأقارب من أهم الأسباب التي تجعل من هذا المرض الخطير يتفشى أكثر فأكثر في بلادنا، بطريقة متصاعدة تنبئ بخطر كبير.
إن السكري مرض خطير، وعلاجه متيسر لمن التزم به وواظب عليه، ويمكن أن يتعايش الإنسان معه ويكون منتجا ونافعا لنفسه وعائلته وبلاده ، فهو ليس مصيبة في حد ذاته، ولكن إهماله وعدم الاعتراف به هو المصيبة والكارثة الحقيقية، والتي لما يقع فيها صاحبها يندم ولا ساعة مندم.

دليل النعايش مع السكري-

دليل  للتعايش مع السكري

المجتمع المدني بمنظماته، والأطباء بخبراتهم، كفيلون بتعاون وثيق مع المرضى بمقاومة هذا المرض والتقليص من آثاره الجانبية، والعناية بمن تضرروا منه… نفسيا واجتماعيا وصحيا… تماما كما نعتني بضحايا أي حرب أخرى… تأكدوا أن عدد ضحايا هذا المرض هي أكثر بكثير من ضحايا أي حرب أخرى تخوضها البشرية… أليس الأولى أن تبذل الأموال والطاقات والبرمجة في مقاومة هذا المرض الخطير…السكري.
من أجل ذلك كان هذا اليوم العالمي لمرضى السكري. والمرجو أن يكون اهتمامنا بهذا المرض ومرضاه وضحاياه كل يوم على مدار السنة، لا في يوم واحد منه.
مساكن في 14 نوفمبر 2015 الموافق 2 صفر الخير 1437

د. جلال الدين رويس

facebook

اترك تعليق