كلمة في اجتماع عام يوم 11 جانفي 2014

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

كلمة في اجتماع عام يوم 11 جانفي 2014

– شيء من الحنين للماضي: اجتماعنا اليوم يذكرنا باجتماع القائمة المستقلة للانتخابات سنة 1989 بنفس المكان.
– الشكر والفضل لله على نعمة الحرية التي ضحى من أجلها الكثيرون وخاصة منهم الحركة الإسلامية.
– كان شغل الحركة الشاغل في البداية التركيز على الهوية لهذه البلاد التي عمد نظام الاستقلال فيها إلى تهميش الدين الإسلامي فيها في كل الاتجاهات (تعليم، قضاء، تدين: صيام، حج…، أحوال شخصية الخ…)،
– لكنها ما لبثت أن تفطنت إلى أن المشكلة الحقيقية في بلادنا هي الحرية، والتي أصبحت العمود الفقري لنضالها السياسي، اعتقادا منها أن بسط الحرية هو الكفيل بنشر أفكار الحركة الإسلامية والنفاذ للمجتمع الذي كبلته أغلال الاستبداد والتغريب القسري.
– الحركة الإسلامية في تونس هي أولى الحركات في العالم الإسلامي التي قبلت الديمقراطية بما تعنيه من تعددية حزبية وانتخابات وتداول على السلطة. وأعلنت صراحة في 6 جوان 1981 أنها تقبل نتيجة الصندوق ولو أتت بحزب شيوعي للحكم. ومع ذلك واجهها نظام بورقيبة بالقمع والملاحقة والسجون في محن 81 و87
– بعد انقلاب بن علي سنة 87، ودفعا للمسار الديمقراطي، دخلت الحركة منقوصة من أهم فعالياتها في انتخابات 89 بالصف الثاني للحركة، وحققت نجاحات كبيرة، لكنها جوبهت بتزوير الانتخابات، وبقرار تعسفي بإقصائها من الساحة السياسية، بعد افتعال الأزمات وحياكة مؤامرة باب سويقة وما سمي بمجموعة “براكة الساحل” وما تبع ذلك من هجمة واسعة شرسة ذهب ضحيتها العشرات من الشهداء والمئات من المعوقين والآلاف من السجناء وعدة آلاف من المضيق عليهم.
– الحركة ترفع شعار الحرية للجميع والديمقراطية كاستحقاق وجدارة لهذا الشعب… والنظام يواجهها بحرب إيديولوجية مفضوحة غير معلنة شعارها “تجفيف منابع التدين” في البلاد. فزيد في التضييق على التدين، وأطلق العنان لأعداء الإسلام في المؤسسة التربوية ووسائل الإعلام والمجال الثقافي… في محاربة مكشوفة للدين تحت غطاء محاربة الإرهاب الذي يعني الحركة الإسلامية بالدرجة الأولى.
– الأوضاع تتطور بعد ذلك ليتوسع التضييق والمصادرة على كل نفس ديمقراطي في كل الاتجاهات. وهكذا دفع الكثيرون ممن صمتوا لما ضربت الحركة ثمنا غاليا لما أصيبوا هم أنفسهم شيئا فشيئا من أتون الطغيان والاستبداد، أو وجدوا أنفسهم منخرطين مع النظام في تعسفه وديكتاتوريته.
– الديكتاتورية تأتي دائما بالفساد من الطبقة الحاكمة والانتهازيين المتمعشين منها، وهو تماما ما وقع في بلادنا فكثرت الرشوة والتصرفات المافيوزية من العائلة الحاكمة من أصهار الرئيس المخلوع وأقاربه… وأصبحت الوضعية خانقة لجميع طبقات الشعب التونسي، من أثرياء وفقراء، من موظفين وعملة، من كهول وشبان، من رجال ونساء… الكل اكتوى بنار هذا الوضع المتعفن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا…
– لما قامت إرهاصات الثورة في الحوض المنجمي وفي بن قردان تعامل الشعب التونسي بشماتة مع النظام القائم، الذي لم تسانده غير حفنة من التجمعيين الانتهازيين وبعض الوصوليين والمنتفعين من الماكينة الديكتاتورية المافيوزية التي تكونت مع الأيام.
– لما قامت الثورة ذات شهر ديسمبر 2010 وجانفي 2011 اندفع الشباب والنسوة والكهول من كل التيارات ومن غير المسيسين ممن اكتووا بنار الماكينة الديكتاتورية والمافيوزية في حراك شعبي عفوي متنامي يوما بعد يوم… لا يدعي أي طرف أنه نظمه أو دفع إليه… بل الذي حركه أسباب ودواعي حصل عليها اتفاق جمعي لدى الشعب التونسي… وتراكم على مدى السنين، لكل جراحاته وآلامه ومعاناته وآثار الديكتاتورية في عيشه وكرامته وذويه… وهذا هو وقود الثورة… كل قد ساهم فيه فلا يمكن أن يدعي طرف الشرف لنفسه فقط… أما النهضة فكانت من أكبر المساهمين لأنها قدمت العديد من الضحايا في كل بيت في بلادنا… وحتى لو لم نكن على اتفاق تام مع الأفكار التي تدعو لها الحركة فلا يمكن أن ننكر أنها كانت في مقدمة المضحين من أجل الحرية واسترجاع البلاد لهويتها والتصالح مع تاريخها …
– من أجل ذلك كافأت الثورة هذه الحركة، وأرجع لها حقها المسلوب الذي طالما ناضلت من أجله، وهو حقها في كيان سياسي، وحصلت على تأشيرة رسمية في 1 مارس 2011. فاسترجعت أنفاسها، وبسرعة لملمت جراحها وفعل سنين المحنة فيها، وسارعت بتنظيم صفوفها، وأفرزت قياداتها محليا وجهويا ووطنيا، بطريقة ديمقراطية، ثم انخرطت في العمل السياسي بغية المساهمة في تجسيد أهداف الثورة، ثورة الكرامة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والجهوية … لأنها رأت فيها ما ينسجم مع مبادئها وما تدعو إليه. لقد كان انخراطها هذا تلقائيا وحماسيا وقويا.
– ولما قامت الانتخابات لإفراز مجلس تأسيسي نادت به الجموع الثائرة في القصبة 2 وأصبح من استحقاقات الثورة، كافأ الشعب التونسي مرة أخرى حركة النهضة وأعطاها الأغلبية في هذا المجلس، لرسوخ قدمها في الدفاع عن هوية البلاد وعلى الحريات، وتوسم الخير في أبناء الحركة من حيث نظافة اليد والاستقامة والأمانة.
– وكان اختيار الحركة ومنذ البداية أن تأتلف مع الأحزاب المؤمنة بالثورة لتأمين المسار الانتقالي، وسعت أن تحشد أكبر عدد ممكن من التشكيلات السياسية معها في جو من البحث على التوافق والتعاون بين الإسلاميين وغيرهم من مكونات المجتمع التونسي. وقد كانت صدمة نتائج الانتخابات شديدة على بعض خصوم النهضة الطبيعيين من اليسار والعلمانيين فلم يستسيغوا رياديتها للعمل السياسي في البلاد وفضلوا المعارضة، والحال أن الوضع لا يحتمل أغلبية ومعارضة، بل تراص الصفوف لإنتاج دستور يضمن الحريات والعدالة والكرامة للتونسيين ويقطع نهائيا مع الاستبداد والفساد.
– ولما تصدت الحركة للحكم مع شركائها ممن آمنوا بالثورة وانحازوا لها، في ائتلاف ثلاثي عرف بالترويكا، وجدت تركة ثقيلة من العهدين السابقين وكذلك من الحكومة الانتقالية الأولى برئاسة السبسي والتي نصبت فخاخا عديدة للحكومة الجديدة. وفي جو مشحون وصعوبات اقتصادية واضطرابات اجتماعية ثم عمليات إرهابية غير مسبوقة وغير مألوفة في بلادنا… حاولت الحكومة القيام ببعض الإصلاحات، التي لم ترتق أحيانا إلى انتظارات الشعب الذي كان ينتظر محاسبة الفاسدين، واستعادة الثروات المنهوبة، والإصلاح العميق في الإدارة والتشريعات القانونية بما يجعل عجلة التنمية تدور، ونسبة البطالة تتقلص، وعدد المشاريع تتضاعف، وضعفاء الحال يتمتعون بخيرات بلادهم حين يقع التحكم في الأسعار وتتحسن الرواتب والمقدرة الشرائية للمواطن… وتنتهي ممارسات الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ والتصرفات المافيوزية وعربدة المنحرفين والمهربين والمضاربين…. كانت الانتظارات والآمال أكبر بكثير من الإمكانيات ومن حرية التصرف والقرار والفعل لحكومة الترويكا سواء الأولى أو الثانية… وتبين بالوقت أن الدولة العميقة بقيت محترزة من الثورة ومتحفظة في تصرفاتها، وعطلت -إلى جانب المعارضة- عملية الإصلاح والتنمية… وتولى الإعلام التسويق لفشل الحكومة، أكثر من التوضيح لأسباب التأخر في الانجازات، والتعريف بما أنجزته حكومة الثورة… وحتى ما تحقق من بسط للحريات، وحرية في التنظم، وحراك في المجتمع المدني، وحرية في التظاهر السلمي وعقد الاجتماعات السياسية والثقافية وغيرها، وعدم وجود سجناء سياسيين، وعدم تجريم الناس على آرائهم…. كل ذلك لم يقدر حق قدره، بل ضخمت أحداث قليلة معزولة مارست فيها الدولة حقها في حماية المجتمع والمؤسسات من أذى جاوز حدّ التظاهر أو التعبير السلمي، إلى اعتماد العنف اللفظي والمادي من استهداف لمقرات السيادة (ولايات، معتمديات، مراكز أمن، مقرات أحزاب …)… أو بعض الاغتيالات واستهداف جنود وأعوان أمن بالتقتيل والإصابة… أو الإعداد للعمليات الإرهابية بالتدرب وجمع الأسلحة والاستعداد للتفجير… مما لا تتحمل فيه الدولة أية مسؤولية مباشرة، ولم ترض عنه، وتتبعت قدر جهدها المسؤولين عن هذه العمليات بكل حزم ومسؤولية … حتى بدا وكأننا نعيش زمن الاستبداد والطغيان وترهيب الشعب ونخبه الحية… وفي هذا تجن حقيقي على هذه الحكومة التي جاءت من الشرعية الانتخابية، ولا يمكن بحال تشبيهها بالحكومات السابقة للنظام التي أفرزتها انتخابات مزورة أو وهمية، وكانت فاقدة لكل شرعية… بحيث يصبح وسمها بالفشل أو إعلان العزم على إسقاطها من اليوم الأول الذي تشكلت فيه أكبر ظلم يمكن أن تتعرض له حكومة شرعية.
– يجب في رأيي أن نعتز بتجربتنا في الحكم، لما تميز به المسؤولون من تجرد وإخلاص ونظافة يد، ولما بذلوه من جهود في خدمة البلاد وتجسيد أهداف الثورة رغم العراقيل والصعوبات. كما يشكروا لمحافظتهم على السلم الاجتماعي وعدم تفريقهم بين التونسيين ومحاولتهم تعيين المسؤولين على أساس الكفاءة قبل كل شيء، وسيكتشف الشعب التونسي ذلك الآن وغدا، مهما تعالت الأصوات التي تتهم النهضة بالتغول والمحاباة والتغلغل في الإدارة قصد تزوير الانتخابات. لقد كانت معظم القرارات التي اتخذت محاولة لتجسيد برنامجنا الانتخابي أخذا بعين الاعتبار مصلحة البلاد العليا لا المصلحة الانتخابية ولا الحزبية الضيقة. ففي حين كان الجميع يحسب أن النهضة ستستغل الدولة للفوز بالانتخابات والاستمرار في الحكم كما فعلت دوما الأنظمة الاستبدادية في بلادنا وفي غيرها من الدول اللا ديمقراطية، بينت للجميع أنها غير متشبثة بالحكم مهما كان الثمن، فتنازلت في البداية عن وزارات السيادة، وها هي اليوم تقبل بالخروج أصلا من سدة الحكم في إطار الحوار الوطني الذي جاء للخروج من الأزمة السياسية المفتعلة من أعداء الثورة، مقدمة مصلحة البلاد وإفضاء المسار الانتقالي إلى نتيجته المرجوة في المصادقة على الدستور والوصول إلى انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في أفضل ظروف ممكنة أمنيا وسياسيا واقتصاديا. إن حركة النهضة لا تعتبر تولي المناصب غاية في حد ذاتها، ولا ترى أن تستعمل الدولة وجهازها للفوز بالانتخابات كما يعمد إلى ذلك كل نظام ديكتاتوري مستبد، بل هي تعوّل على الله عز وجلّ أولا وبالذات، ثم على أبنائها وأبناء شعبنا الذي ميز طيلة هذه الفترة بين الغث والسمين، والصادق والمخادع، والثوري والمعادي للثورة… ونحن نعول كثيرا على ذكاء هذا الشعب، الذي لن يغير بسرعة من قناعاته واختياراته. فإذا تخلفت النهضة عن الموعد في الاستجابة لانتظاراته فلأن الفترة كانت قصيرة، وسمتها الهشاشة والانتقالية، بحيث يصعب جدا الدخول في اختيارات استراتيجية، كما أن المعارضة كانت هدامة ولم تكن بناءة، والإرث الفاسد كبير وثقيل جدا، والقوى المضادة للثورة ممن خسروا امتيازتهم السابقة ونفوذهم لا يهدؤون ويكثفون تحركاتهم وينفقون الأموال الطائلة لإرباك الساحة، ولكننا متأكدون من أن عزلتهم ستزيد، وأن حظهم في الرجوع بالبلاد إلى ما قبل الثورة مستحيل، وأنهم يسبحون ضد التيار، ولن يكلل جهدهم أبدا إلا حسرة في قلوبهم وكمدا وانحسارا. والأيام بيننا. المهم ألا نفقد الثقة بأنفسنا، وأن نتكاتف، وأن نتدارك نقائصنا، وأن نحسن الظن بشعبنا، والذي إن بدا عليه بعض الغضب منا، فإنما هو عتب المحب لا غضب المفارقة والعداء.
– المرحلة القادمة مهمة جدا، لا يجب أن نتخلى فيها عن مبادئنا وثوابتنا، نقيم فيها مسيرتنا في النضال ووضع البرامج الانتخابية وتجربة الحكم، ونتخذ ما نراه مناسبا من تعديلات تناسب الواقع الذي اكتشفناه وخبرناه الآن… ونتوكل على الله ونمضي في مصارحة تامة لشعبنا، والتحام معه، فنحن منه وإليه، ونحن خدامه… فارفعوا رؤوسكم إخواني واعتزوا بحركتكم فهي رائدة في الفكر والممارسة، وتقدم للعالم درسا ندعو الله سبحانه وتعالى أن يكلل بالنجاح، وأن يكون مثالا يحتذى عند الشعوب… درس يجمع بين الإسلام العظيم والحداثة بما هي ديمقراطية وحرية وتنمية وعدالة وكرامة للإنسان… فإذا كانت هذه الريادة فلم التردد والشك والارتياب والخمول…
“انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” .
“ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين”.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

أخوكم د. جلال الدين رويس

يوم السبت 10 ربيع الأول 1435
الموافق لـ 11 جانفي 2014

facebook

اترك تعليق