صحة الإنسان: مكاسب … وتحديات

صحة الإنسان: مكاسب … وتحديات

إعداد الدكتور جلال الدين رويس

التطور الكبير الذي تعيشه البشرية، وخاصة في النصف الثاني من هذا القرن، وبعد أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها، تجلى في نواح عديدة من الحياة. ولكن هذا التطور كان أكثر تميزا في المجال الصحي، الذي أعطى للبشرية مكاسب جمة نتج عنها السيطرة على الأمراض وبالتالي تحسن الحالة الصحية للأطفال والنساء بالدرجة الأولى وللكهول والشيوخ أيضا. وسمحت هذه المكاسب بتحسين معدل متوسط الأمل في الحياة espérance de vie والذي مرّ على سبيل المثال في بلادنا من 45 سنة في الخمسينات إلى 70 سنة في التسعينات. ولكن هذه المكاسب قابلتها شيوع جملة من الأمراض والآفات الصحية الخطيرة والقاتلة والتي للإنسان دور كبير في وجودها وانتشارها، وبإمكانه – لو توفرت له العزيمة الجماعية- القضاء عليها ومحاصرتها. وتسعى هذه المقالة إلى التنبيه للجانبين معا بشيء من الإجمال والإختصار وذلك بالقدر التي تسمح به المساحة المتاحة.
أولا- المكاسب:
يمكن تلخيص أهم المكاسب التي ساهمت في تطور الطب والعناية الصحية، وساهمت بالتالي في تطويل عمر الإنسان، في خمسة مجالات هامة هي:
1) التلقيح: وهو الأمر الذي سمح بمقاومة جملة من الأمراض القاتلة والفتاكة سابقا، والتي كانت تقضي على أعداد هائلة من الأطفال في سني حياتهم الأولى. ويرجع الفضل في اكتشاف التلقيح إلى العالم الفرنسي الشهير باستور الذي تمكن من اكتشاف تلقيح لمرض الكلب. وعلى منواله نسج الكثير من العلماء فوضعوا تلاقيح للكزاز والشلل والسعال الديكي والحصبة والخناق والسل (وهي التلاقيح الإجبارية للأطفال في بلادنا). وأمكن بالتلقيح وحده القضاء على مرض الجدري الذي كان يفتك بالآلف في شتى أنحاء العالم ويخلف لهم الآثار الجسمانية المدمرة. وأمكن في السنوات الأخيرة صنع تلاقيح إضافية ضد مرض النكاف oreillons والحميراء rubéole والقريب grippe والفيروس الكبدي الحاد «ب» hépatite virale B (الذي أصبح إجباريا في بلادنا منذ جانفي 1996) و«أ» hépatite virale A و التهاب السحايا méningocoque et Haemophilus influenzae وغيرها، مما أعطى المزيد من الفرص لمقاومة الأمراض الخطيرة والتي يسهل انتقالها بين الناس. ومثال الشلل بارز في بلادنا: فبالإضافة إلى القضاء على الفيروس لدى الأفراد ( حيث نسجل غياب الإصابات بالشلل في بلادنا منذ سنوات)، أقيمت أخيرا (أكتوبر ونوفمبر 1995) حملة كبيرة للقضاء عليه في المحيط الطبيعي، وهو ما يمثل تقدما هائلا وتحديا كبيرا يحق لنا الإفتخار به.
2) نقل الدم: لقد سمح اكتشاف فصائل الدم المختلفة بنقل الدم من الأشخاص السليمين إلى المرضى المحتاجين، ولا سيما أثناء العمليات الجراحية، والنزيف الحاد في الحوادث ولدى النساء في الولادة، وعند المصابين ببعض أمراض الدم الوراثية المزمنة… ولولا هذا الأمر لما تمكنا من القيام بهذا العدد الهائل من العمليات الكبيرة والخطيرة والتي إذا لا تتم فإن المرضى يموتون دون شك. فيتبين حينئذ أهمية التبرع بالدم، هذه الحركة النبيلة في معناها والبسيطة في حد ذاتها والشديدة الأهمية في إنقاذ الآلاف من الأرواح البشرية في كل دقيقة من ساعات اليوم الطويلة.
3) المضادات الحيوية: وقد ذكرتها دون غيرها من الأدوية في مختلف المجالات، والتي شهدت هي أيضا تطورا كبيرا ساهم في تحسين الوضعية الصحية للكثير من المرضى، ذكرتها لمساهمتها الكبيرة في السيطرة على الأمراض الجرثومية التي كانت تقضي لوحدها على الآلاف من المرضى. فقد أمكن بالبنيسيلين الذي اكتشفه العالم الإنجليزي د.فليمنغ من مداواة جرحى الحرب العالمية الثانية الذين كانوا عادة ما يموتون لمجرد تعفن جروحهم. وهذه الأدوية على أهميتها تفقد نجاعتها إذا أسيء استعمالها، فلقد برزت مع السنين مقاومة عنيدة من بعض الجراثيم لتعودها عليها، مما يجعلنا ننصح باقتصار استعمالها بإشارة الطبيب فحسب حتى نحافظ على نجاعتها… لكأني بالإنسان يستكثر على نفسه توفر السلاح لديه فيستعمله كما اتفق حتى يتلفه أو يحفى؟
4) وسائل منع الحمل: توفر هده الوسائل في النصف الثاني من هذا القرن مثل الأقراص pilules والآلة الرحمية stérilet والغرّاسات norplant والواقيات préservatifs الخ… سمح بتباعد الولادات، والتنقيص في عدد الأطفال، وهو ما رجع بالفائدة الكبرى على صحة الأم (بحكم نقص عدد الولادات) وصحة الطفل (بحكم القدرة العائلية على العناية الصحية بحكم صغر حجم العائلة).
5) وسائل التشخيص: لا شك أن تشخيص المرض هو الخطوة الأساسية لمعالجته. والتطور الكبير الذي شهدته وسائل التشخيص في الخمسين سنة الأخيرة مذهلة وعادت بالنفع العميم على الطب. ومن أهمها:
– التحاليل البيولوجية: التطور في هذا المجال كبير جدا وخاصة في المواد المحللة réactifs
– التصوير بالأشعة X: تبقى هامة بالرغم من ضررها البدني النسبي
– الكشف بالصدى echographie والكشف بالرنين المغناطيسي résonnance magnétique والمفراس (السكانار (scanner والكشف الكهربائي (للقلب والمخ والعضلات والسمع وغيرها..) تعتبر ثورة حقيقية في التشخيص القليل الضرر العظيم الفائدة،وعيبه الوحيد يكمن في ارتفاع كلفته.
– التصوير الومضاني (scintigraphie) الخ…
هذه أهم المكاسب الذي سمحت بتطور كبير في الطب وبنقص الإصابة بالمرض morbidité والموت mortalité الناتج عن غياب التشخيص أو العلاج. ولكن في المقابل تعترض البشرية جملة من التحديات تهدد كيانه وحياته بالخطر وتمثل هاجسا حقيقيا للعلماء والمجتمعات. فما هي أهم هذه التحديات التي تطرح على الإنسان في نهاية هذا القرن؟
ثانيا- التحديات:
يمكن تلخيصها في المسائل الرئيسية الخمسة التالية:
1) ظهور مرض السيدا: وهو مرض فيروسي خطير، العدوى فيه سهلة، عن طريق الإتصال الجنسي أو عن طريق الدم (أثناء نقل الدم أو بحقن المخدرات المشتركة مثلا )، ولا علاج له ناجع في الوقت الحاضر، وقد فشلت كل محاولات البحث عن تلقيح له إلى الآن. وأفضل طريقة لمقاومته تجنب مخالطة أو الإتصال بحاملي للفيروس أو المعرضين لحمله من الشواذ والإباحيين والمدمنين وما أشبههم. وبلادنا، كسائر البلدان المسلمة، ليست مهددة بكثرة بهذا المرض الخطير ما دامت محافظة على تقاليدها وعاداتها في العلاقات الجنسية و حريصة على محاربة الإدمان على المخدرات .
2) تفشي ظاهرة التدخين: والسيجارة عدو لدود للإنسان وسم زعاف يتنشقه بكل نهم في كل وقت وحين، وهو لا يدري الخطر الداهم الذي يتربص به من كل جانب. ويمكن أن نذكر بعجالة وبإجمال شديد جملة من المساوئ والأمراض التي تنتظر المدخنين، تاركين أمر التفصيل فيها لفرص لاحقة. فمنها أنه: يخفف شهية الأكل، يزعج عملية الهضم، يعيق توازن النوم، يولّد صعوبات عند الإستيقاظ، يساعد على حصول النوبات القلبية، يفكك ويلغي مفعول الفيتامين «س» vitamine C الضروري جدا للجسم، يشجع على الإصابة بسرطان الحنجرة والرئتين، يسهم في اصفرار الأسنان، يزيد تجاعيد البشرة، يجعل المدخن سيء المزاج ومتوتر الأعصاب، يخدش الطبقات الرقيقة التي تغطي داخل الحنجرة، يتسبب باضطرابات الذاكرة، يولّد اصطرابات في النظر، يخلق المزاج العصبي، يضر بالوظائف الجنسية، يخفف الإرادة، يضايق المحيط، يخفف الحيوية، يسهل الإصابات بالكسور لأنه يخفف مادة الكلس في العظام، يولد رائحة فم كريهة، يكلف غاليا قياسا إلى ما يوفره من متعة… ولا فرق في ذلك بين السيجارة والسيجار والنفة والشيشة التي-للأسف الشديد- أصبحت موضة الشباب اليوم. وما يثير الفزع حقيقة إقبال الشباب المدرسي بالخصوص على هذه العادة السيئة… ونحن نرجو أن تكفي هذه الإشارة الكثيرين ممن بدأوا هذه التجربة حتى يقلعوا عن التدخين قبل أن يصابوا بالإدمان لا قدر الله…
3) ظاهرة تناول المخدرات: تمثل هاجسا كبيرا وخاصة في المجتمعات الأوروبية المتقدمة (أين تستهلك ترفا) و بعض البلدان الفقيرة (أين تستهلك هروبا وبحثا عن أحلام وأوهام كاذبة). وخطر المخدرات كبير جدا يستوعب كل ما ذكرناه آنفا بالنسبة للدخان ويضيف إليه الإدمان الكامل الذي يصبح المستعمل عبدا وأسيرا للمادة المخدرة، مما ييسر طريق الجريمة والإنحراف، وينتهي حتما إلى التهميش والعطالة داخل المجتمع ثم الهلاك في أسوإ الحالات وأبأسها في نهاية المطاف. والمتأمل لحالة المدمن يلاحظ الدمار الذي يصنعه بنفسه ماديا وصحيا وعقليا، والدمار الذي يصنعه بمجتمعه الذي يحتاج لكل طاقاته، فما ألجأ العاقل إلى هذا؟ ثم أليست الدول والعلماء على حق حين تقاوم بضراوة الإدمان والمروجين وتجار السموم البيضاء؟؟..
4) تلوث البيئة: يمثل خطرا داهما على صحة الإنسان، وقد ظهرت أمراض كثيرة جديدة نتيجة تلوث الماء والهواء والتراب ببقايا الصناعات والإشعاعات الذرية وغبار الأسلحة المدمرة والمواد الكيماوية المختلفة وما إليها؛ وتتمثل هذه العاهات في بروز حالات سرطانية، وحالات أرجية allergie مختلفة في الجلدة والقصبات الهوائية والعيون، وأمراض عصبية، وتشوهات خَلقية للأجنة الخ.. وهذه الأمراض لن تزول أو تخف حدتها ما لم يقاوم الأسباب التي تؤدي إليها. وهنا يتمظهر الدور الرئيسي للإنسان في هذه الناحية أيضا.
5) التسمم الدوائي: والمقصود به الإقبال الشديد وبشراهة غير منطقية على استهلاك مفرط للأدوية، حتى كدنا أن نجد لكل عرَض مرضي symptôme دواء يقابله، والحال أنه من الخطير تعويد البدن على استهلاك الدواء على حساب قدرته الذاتية في المقاومة والتغلب على الأدواء والآلام. إذ من المعلوم أن كل دواء لا يخلو من مضاعفات جانبية ومن احتمال تعود الجسم عليه (مثل الأدوية الموصوفة للأمراض العصبية والنفسانية)، أو نشوء مقاومة في الجسم ضد الدواء (مثل المضادات الحيوية كما أسلفنا).. وفي كل ذلك خطر أكيد-ولو كان ضئيلا في أغلب الأحيان- على الجسم. من أجل ذلك نؤكد على وجوب تجنب الاستهلاك الفردي للدواء دون استشارة الطبيب أو الصيدلي، ووجوب تحديد قائمات من الأدوية لا تباع بأي حال إلاّ بوصفات طبية، وضرورة حث المواطنين -وكذلك الإطار الطبي- على إتقان الطرق العلاجية الطبيعية التي تكون لها آثار جانبية قليلة وتسبب أقل إزعاج وألم للمريض ( وهو ما اصطلح على تسميته بـ «الطب اللطيف » médecine douce ) مثل الطب بالأعشاب Phytothérapie، والطب المتشابه Homéopathie، والوخز بالإبر الصيني Acupuncture، والوخز بالإبر الأذني Auriculothérapie وغير ذلك من طرق العلاج التي بدأت تروج في المجتمعات الغربية المتقدمة هربا من التسمم الدوائي ورجوعا إلى وسائل أكثر التصاقا بالطبيعة وبالخلقة الأولى للإنسان….

الدكتور جلال الدين رويس- مساكن – 18 ماي 1996-

facebook

اترك تعليق