رؤية حول المسألة الثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم

رؤية حول المسألة الثقافية:

معوقات العمل الثقافي

1) عدم تقدير أولوية العمل الثقافي:
– إن تشخيص الواقع يجعل من النشاط السياسي بما هو تحقيق للحرية والفعل السياسي في المعارضة أو في المشاركة في الحكم، وما يتطلبه من تكوين ودربة على اتخاذ المواقف والجدال مع المنافسين وإحكام التسيير والتصرف في المؤسسات والأشخاص… كل ذلك يجعل الاهتمام بالسياسي أولويا دوما وأبدا… ثم هو أيسر المجالات في التكون والممارسة، وعليه نشأنا ومارسنا باختيار منا ودون اختيار. ولا شك أن الزاد المعرفي والثقافي واتساع آفاق السياسي رافد أساسي له للنجاح في مهامه السياسية…ولكن قلّما يعطيه السياسي حيزا من وقته واهتماماته ويجعله من المكملات والترف الفكري لا أهمية مركزية حقيقية له إلا بقدر خدمته للشأن السياسي.
– والمجال الثاني الذي يحظى باهتمام كبير في الحركة الاسلامية هو الفعل الاجتماعي ، وذلك لأنه يحظى بدعم شرعي كبير فالنصوص التي تحث على الصدقة ورعاية الأيتام والأرامل والضعفاء ، واشتمال البناء الاسلامي على ركن الزكاة، وما يتضمه من مصارف تشمل أصنافا لا تشمل اهل الثقافة ولا الفعل الثقافي.
– والمجال الثالث هو المجال الدعوي والذي يتموقع في قلب المشروع الإسلامي ويملأ الدعاة وخاصة الألمعيون منهم المساجد ووسائل الإعلام المختلفة أسماع الناس وأنظارهم. ولا شك أن وراء ذلك تأصيل شرعي بارز، من آيات وأحاديث نبوية شريفة تمجد طالب العلم ، وباذله : “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”، وتمجد الدعوة إلى الله وتثمنها: “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين”. وهذا يجعل الاقبال على هذا المجال، والهرولة إليه، وخاصة في زمن الحرية والتساهل، كبيرا جدا ولافتا للنظر. ولكن إذا تأملت في حال الدعاة والمتصدين للوعظ والإرشاد ، تعجب للضحالة والضعف والانفصال عن الواقع وعن اهتمام الناس عند أغلبهم، فيقدموا فتاوى ومحتوى ما أنزل الله به من سلطان ولا يخدم الإسلام بل ينفر أكثر مما يبشر…ولا حول ولا قوة إلا بالله.
– والمجال الثقافي يتضرر بضعف الاهتمام ، بالرغم من ذكره من حين لآخر ، والتأكيد على أهميته. والمتأمل للمجالات الثلاث المذكورة أعلاه، يتبين أن للثقافة دورا كبيرا في إنجاحها وتحقيق الإضافات لها في المضامين والأشكال والتسويق…ومع ذلك يضعف نجاعتها بتغييب الجانب الثقافي منها. فالسؤال المركزي في تقديري : أي شيء جعل الثقافة تتقهقر في اهتمامنا إلى هذا الحد؟ . لا شك أن الاقرار بهذه الحقيقة هو بداية الحلّ. وسنحاول في النقاط التالية الاجابة على هذا السؤال.
2) المعوق الشرعي:
– يجب أن نصارح أنفسنا ونقول بأن مجالات الفعل الثقافي تحاصرها الفتاوى والمواقف الفقهية المختلفة والتي أنتجت على مدار السنوات منذ انبعاث الاسلام. وكل مجالات الفعل الثقافي من شعر وأدب وغناء وموسيقى ورسم وتصوير ومسرح ورقص وسينما وتلفزيون وصحافة وفا يسبوك … تتعرض للتحريم وتوسيع دائرة سد الذرائع وتضخيم الموانع من تنكير على الاختلاط، والكذب، وكشف العورة، وعورة الصوت، وحرمة الغناء، وحرمة سماع الموسيقى، وحرمة التصوير الخ… وإذا أردنا أن نطور فعلنا الثقافي لا بد من تطوير للفقه الذي يتصدى لدراسة هذه المجالات جميعها، ونشر هذه القناعات على الناس لإقناعهم بأهمية هذه المجالات ومفصليتها في العصر الحديث في اهتمامات عامة الناس وغرامهم بها. أذكر أني قرأت مرة كتابا لرجاء غارودي عن الرقص كتبه بعد أن أسلم وبين فيه أن هذا الفنّ تعبير عن مكنونات النفس البشرية وفيه من الرقي ما يعادل رقي الإنسان وليس كله من الحرام المنبوذ. والحال أنني سمعت الأستاذ العجمي الوريمي مرة يقصي هذا الفن ويعتبره لا يدخل في اهتماماتنا. والمتأمل في السيرة النبوية يرى عجبا: عائشة تمضي وقتا طويلا في التفرج على رقص للأحباش بالمسجد النبوي، وأبو دجانة يتبختر راقصا لأنه أخذ سيف الرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرها من النصوص… وقد سمعت الشيخ راشد الغنوشي يعبر في أحد أحاديثه التلفزية عن إعجابه برقصة الدبكة الرجولية عند الفلسطينيين وأهل الشام مثلا… ولكننا لا نريد أن نعمق النظر ونخلص تراثنا من معوقات كثيرة تسيء لحاضرنا وتعيق فعلنا فيه. لست فقيها ولا متخصصا، ولكني أرى أن العلماء وفقهاءنا على مر العصور حاربوا مختلف الفنون لأنها اقترنت بالمعاصي مثل معاقرة الخمرة وارتكاب الفواحش وإضاعة الصلوات … فوسعوا باب سد الذرائع على حساب الفنون نفسها، فلا هم منعوها من التواجد واستمرارها عبر العصور والأحقاب، ولا هم اقتحموها بعقلية المصلح وحسن الفعل فيها. ويعتمد الكثير ممن يدعون العلم حديثا على أحاديث ضعيفة أو موضوعة لقطع الطريق على معظم الفنون، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وزاد من تركيز القوى الاستعمارية في غزوهم لبلداننا والرغبة في تغريبها على نشر تصورهم وطريقتهم في ممارسة الفنون، فاقترنت في أذهان الكثيرين بالاستعمار والتغريب، فكان أن تماهت مقاومتهم للاستعمار بمقاومتهم لتلك الأشكال من الفنون. وحسب الكثير من الفقهاء والمفكرين في البلاد الإسلامية أن الإسلام يتعارض مع هذه الفنون، حتى أصبحت هذه الفكرة حقيقة سرمدية يصعب زحزحتها. ومن آمن بها كعلامة للتقدم والمدنية والحداثة، رأى في الانسلاخ عن الاسلام ثمنا بخسا لا يرى مندوحة من دفعه لممارسة ما أحب من فنون، واتهام الإسلام بأنه ضد الحداثة والفن والثقافة، التي لا تنمو إلا في جو من الحرية التامة والانعتاق من كل دين أو قيود أخلاقية. وهذا في تقديري ما يفسر كثافة تواجد العلمانيين من الليبراليين أو اليساريين في هذا المجال، وغياب كلي أو شبه كلي للمتدينين فيه.
– وخلاصة القول، أنّ مختلف مجالات الفعل الثقافي محتاجة إلى “ثورة فقهية”، تسمح بالعمل فيها بكل طمأنينة، بل برجاء كبير في ثواب جزيل وأجر عظيم ورضا من الله عز وجلّ على المعاناة والتعب والوقت المبذول من أجل أن تكون الثقافة في خدمة مشروع الحركة و خدمة الإنسان مهما كان موقعه من العالم وموقفه من الإسلام. ودورنا، نحن محبي الثقافة في البلاد والحركة، أساسي في طرح التساؤلات وتقديم الإجابات الضرورية المنسجمة مع عصرنا، والمحققة للحداثة في الثقافة في إطار الإسلام لا خارج إطاره.
3) المعوق البشري:
يعتبر إعراض الاسلاميين ذكورا وإناثا عن الانخراط في الفعل الثقافي حصيلة للعقلية العامة التي توارثت وتعمقت بفعل المواقف الفكرية والفتاوي الفقهية، والانصراف عن ميدان الفعل الثقافي وتركه مرتعا للعلمانيين ومدعي الحداثة يبثون منه سمومهم، وينتجون فنونا ماجنة أو ناشرة لقيم الآخر، بدعوى الحرية ومحاربة “التابوات” المختلفة. وقد أصبح هناك نموذج للفنان في المخيلة العامة، قد لا تكون دائما صحيحة، ولكن ذلك ما أوهمونا أنه لا يكون إلا كذلك: الفنان متحلل، يدخن، ويعاقر الخمرة، متحرر في علاقاته الجنسية، وربما يتناول المخدرات، ليس له أي التزام خلقي لا في اللسان ولا في الفعل، يعتمد في إبداعه على الحرية المطلقة التي لا تناقض الكذب والنفاق والتقلب والفظاظة والشتم والسباب … وما إلى ذلك مما نفّر كل متدين أو مستقيم على الانضمام لهذا العالم. وحتى من اختار المواقع “النظيفة” من الفنون مثل الأدب أو الشعر أو فن الخط أو النقش أو الرسم الخ… فإنه إذا تجاوز أدب النضال والسجون، وشعر الثورة والمقاومة والروحانيات، والرسم “الإسلامي” الذي لا يجسد ولا يترك ظلا … فإنه ينعت بالميوعة والتفسخ ويحاصر بالتحريم… نتج عن كل ذلك عدم التحاق الطلبة الاسلاميين بالمعاهد المتخصصة، وعدم اقتحامهم لهذه المجالات من باب العلم والتخصص الحقيقي، وكل ما وجد هو محاولات شخصية لعصاميين أو موهوبين حاولوا أن يسلكوا هذا الطريق وسط احتراز من إخوانهم في الدرب وعدم تشجيعهم في الغالب الأعم. والمسألة تخص الإناث أكثر من الذكور، لأسباب معلومة تخص الحشمة وصعوبة تفهم المجتمع. زاد على ذلك محاربة النظام السابق للحركة وسلوك تجفيف الينابيع، والتقائه موضوعيا مع العلمانيين بشقيهم الليبرالي واليساري الذي كانوا يقظين جدا، فأقصوا كل من كان له نفس إسلامي، وقطعوا عنه كل سبيل لاقتحام هذا العالم الذي يعتبرونه حِمَاهم الخاص وأهم مجالات الفعل عندهم. وتجاوز هذا النقص الفادح، زاده عجزنا عن التعرف على الطاقات الكامنة والتي تحتاج للتشجيع للبروز والانخراط السريع في هذا المجال الحيوي، بل أقول إشغالنا لبعض طاقاتنا الثقافية بالعمل التنظيمي أو السياسي أو الاجتماعي بما يجعلنا عاجزين عن اقتحام هذه الساحة بكل طاقاتنا، للأسف الشديد.
4) المعوق المضموني:
يعتبر مضمون الفعل والنشاط الثقافي أهم الأجزاء فيه. والحقيقة أن ضعفا كبيرا نلاحظه في الجانب المضموني في المجال الثقافي. وحسبنا في هذه الورقة إشارات سريعة لأهم ملامح هذا الضعف.
• الضعف المصطلحي: والمقصود به الغموض الكبير والالتباس في المصطلحات. فما المقصود بالثقافة: أهي التكوين الفكري النظري ونشر المفاهيم؟ أم هي الأخذ بكل شيء بطرف؟ أم هي التعبيرات الفنية عن الفكرة بمختلف تمظهراتها وأشكالها؟ أم هي أساسا الفنون والآداب دون الفكر والتفكير؟… والحق أن غياب التكوين وطول فترة التصحر الثقافي هي السبب في غياب ودقة المصطلحات في العمل الثقافي الذي انطلقنا فيه.
• الضعف اللغوي: وهي مصيبة وطامة كبرى. فالضعف اللغوي يلازم مثقفينا، فلا هم أتقنوا العربية بل يجنحون للدارجة في حديثهم، وينتابهم اللحن عندما يتكلمون العربية، أما إذا كتبوا فضحتهم اللغة من نحو وصرف ورسم، والوهن وصل للأدباء والشعراء… أما المتغربون فلا هم يحسنون الفرنسية، “لغة الثقافة” عندهم، بل ويرطنون بلغة فرانكو-عربية هي مزيج عجيب، لا هي أخلصت للعربية ولا هي أدت الفرنسية، والمثقفون يحسبون أنفسهم متحررين تقدميين لما يكتبون باللغة الفرنسية، وتراهم يمنّون علينا بترجمة سيئة لأثرهم الفرنسي للغتنا الأم. والأدهى أن لغة جديدة برزت بحكم التطور الألكتروني، سواء في اللفظ، ولكن وخاصة في الرسم حيث أصبح التراسل عبر الإرساليات القصيرة والتدوين على الأنترنيت يتم بكتابة اللغة الدارجة بحروف لاتينية تتخللها أرقام تترجم عن حروف عربية هي من خصائصها… ولا أظن الأمر يبشر بخير إذا ما قبلنا الأمر وسكتنا عليه، فربما يفرض نفسه ويكون بديلا عن لغتنا الأصلية، لغة القرآن الكريم. ولم أر في فعلنا الثقافي ما يتصدى لهذه الظواهر، فيقدم للعربية الخدمة التي هي بها جديرة ويجعلها المحمل الرئيسي للفعل الثقافي البديل الذي نبشر به.
• الضعف في المحتوى: والمقصود به أنّ المادة التي قدمناها في كل مجالات العمل الثقافي هزيلة لا ترقى إلى درجة المقبول فضلا عن التميز والريادة. فأين نصوص الأدب من قصة وأقصوصة ومقالة أدبية نقدية؟ لم التخصص فقط في أدب المحنة والسجون، وكأن الحياة ليست إلا معاناة نضال سياسي فحسب؟ أين الشعر بأغراضه المعتادة؟ لم الاقتصار فحسب على الشعر الديني أو السياسي … وإهمال الشعر الإنساني والاجتماعي والعلمي وما إليه من الأغراض المترجمة لكل مناحي الحياة؟ أين الغناء والأصوات الجميلة والمشنفة للأذان؟ لم الاقتصار فحسب على الإنشاد الجماعي الصوفي المنحى لكل الفرق الملتزمة، فهل أن ذلك محبب فعلا إلى عامة الناس، أم هو إلى النخبوية ينحو؟ أين الموسيقى الجيدة، المتجددة، المتقنة، الحرفية، البعيدة عن اجترار ألحان الماضي والاقتصار على تركيب الكلمات على ما اشتهر منها؟ أين التمكن من العزف على مختلف الآلات، أم أننا لا زلنا تقتصر في فعلنا الموسيقي على الدف وآلات الإيقاع فحسب؟ أين المسرح الملتزم بهوية البلاد وثقافتها في نصوصه ورجالاته ونسائه أيضا؟ أين الاستغلال الأمثل للصورة سواء ما كان منها ثابتا أو متحركا في التلفزة والسينما، هذا المجال الحيوي الذي يخلب الأنظار ويجلب الاهتمام ويهز المشاعر؟ هل لنا أية فكرة عن البرامج الترفيهية وبرامج الألعاب والمنوعات الشمولية كفكرة ومحتوى وطرق تنشيط؟. ثم أين بصمتنا في الإبداعات اليدوية من رسم ونقش ونحت وخط وما إليها من الفنون التشكيلية، أم أنه عالم ليس بعالمنا، ولا نكون فيه إلا مستهلكين؟ وأخيرا، وعلى المستوى النظري، والبحث والنقد والتفكير، أي إضافة أوقعناها؟ هل جعلنا من قناعاتنا والمبادئ التي نلتزم بها منطلقا ومادة لصناعة المحتوى، وصياغة مادة التمحيص والتقييم والتجاوز بعد استخلاص النتائج لمختلف البحوث؟ … الحقيقة أن “التصحر” هو العبارة الدقيقة التي تعبر على حقيقة فعلنا وحضورنا في المشهد الثقافي العام، لاسيما عند العاملين لفائدة المشروع الإسلامي، وأرجو ألا أكون قاسيا، وحتى ما أنتج فإنه لا يرقى لمستوى ينازع السائد والمتغرب والعلماني ولا يفلح إطلاقا في طرح نفسه كبديل جاد وثري وبراق جاذب عنه.
5) المعوق المادي:
“المال قوام الأعمال”، هذا ما يصدق في كل مناحي الحياة، ولكنه في المجال الثقافي أكثر وقعا وأشد تأثيرا. الفعل الثقافي يجلب للمتلقي السعادة، ويرتقي بحسه وشعوره، ويجيبه على الأسئلة القلقة التي يمكن أن تجتاح عقله، ويمكن أن يتوازن في حياته بفضله. ولكنّ كل ذلك يمكن أن يمرّ بعد متطلبات الحياة الأخرى في المعيشة، والتي تتأثر في مختلف جوانبها بمنطق الربح والخسارة والعمل والبطالة، بحيث قد يبدو أن المنتوج الثقافي لا يكون إلا “ترفا” فكريا أو من الكماليات التحسينية فحسب… ولا يمكن أن نتخيل الصعوبة البالغة التي يجدها أهل الثقافة في بلادنا، وكل البلدان التي لم تنزل الثقافة منزلتها الحقيقية في تهذيب الذوق العام وتربية الناس وتوجيههم، في توفير التمويل اللازم لإنجاز منتوجاتها. وقلّما نجد من يعيش منها لوحدها، أو يحقق ربحا ماديا حقيقيا منها. ولذلك عملت الأنظمة الحاكمة في دعم الثقافة في كل أجزائها، ولكن بأي ثمن؟ أقله الموالاة أو السكوت على العيوب. وما لم يصل أهل الثقافة إلى تحقيق معادلة تحقيق التصاق الثقافة بطلب الجماهير والتحامها بهم، واقتناع الميسورين بالتمويل، وأهل المهنة بجعلها حرفية راقية، تسندها سياسة تسويق ودعاية وإعلام مدروس وممنهج… لا يتعارض كل ذلك مع مبادئنا، بل هو ضرورة لاستقلال إنتاج الثقافة وحرية الإبداع وعدم خدمته للسلط القائمة مهما كانت… وإنتاج الثقافة يمكن أن يسوق في كتب أو معزوفات وفرق موسيقية ومسرحية، أو أشرطة مرئية أو مسموعة أو أقراص مضغوطة وما إلى ذلك مما يوفر التمويل لبعض الإنتاجات الثقافية…
6) المعوق في الأساليب والتخطيط:
كل فعل ثقافي يستدعي توفير جملة من أساليب عمل تستدعي التكوين النظري والتدريب والتأهيل المستمر، فهل نظمنا أنفسنا حتى نوجه من له موهبة لكي يتقدم على طريق الفعل الثقافي الحرفي في أسلوبه والملتزم في مضمونه؟. أما أن نقدم محتوى جيدا بأسلوب فج ممجوج فلا تترقب قبولا ونفاذا للمتلقي. ولا نحرز تقدما في هذا المجال إلا بتخطيط محكم حول المجالات والأشخاص والمضامين التي تتكامل مع حراك المجتمع والقضايا التي يفرضها واقعه المعيش، حتى نكون في فعلنا الثقافي ترجمة حقيقية على اهتمامات الناس وآمالهم وأحلامهم. مشكلتنا أننا نتوجه بإنتاجنا لأنفسنا نرضي نرجسيتنا ورغباتنا النفسية الدفينة والمكبوتة، غير عابئين بانتظارات المتلقين التي –في تقديرنا- تمثل المعيار الأول لاختيارات أساليب عملنا. فإذا كانت الحفلة الموسيقية أو المنوعة التلفزية أو الفيلم السينمائي هي ما تنتظره الجماهير المتلقية وتحبذه، توجب أن نتوجه إليها ونتخذها وسيلة لطرح بدائلنا في كل هذه المجالات المحبذة… ولا نصرّ على اعتماد أساليب أصبحت ممجوجة أو تجاوزها الزمن. وكل بلد له خصائص وطبيعة لأهله، وكل زمن له فنونه وشكله الثقافي البارز. لا بد من تخطيط، والتخلص من العفوية والسذاجة في التصرف وترك الأمور للصدف. ولا يجب أن يؤول الأمر إلى أن نكون “إمعة” ، بل المطلوب بذل الجهد في تنمية ذوق الناس وميولاتهم، ولكن أيضا لا بد من فهم المحيط الذي نتحرك فيه، وضرورة التأقلم وتحين الفرصة المناسبة… التخطيط يجب أن يهتم بالمضامين، والمواهب، والأساليب وتنظيمها في الأوقات والأماكن والأشخاص المتلقين… وهذا عمل كبير يؤمنه أهل المهنة والمثقفون بالدرجة الأولى ويعينهم السياسيون وعلماء الاجتماع والمؤرخون والإعلاميون وكذلك علماء الدين والدعاة والوعاظ. هذا ما يضمن للعمل الثقافي صواب الاختيارات فيه، وحسن التقييم والتطوير في حراك متواصل لا يتوقف.

تحريرا بمساكن في 28 أفريل 2012 م
الموافق لـ 6 جمادى الثانية 1433 هـ
د. جلال الدين رويس
عضو جمعية «منتدى المعرفة» الثقافية

facebook

اترك تعليق