وجهة نظر: ثقافة النصر

وجهة نظر: ثقافة النصر

المؤمنون يحبون النصر

المؤمنون يحبون النصر على الأعداء والفتح القريب وتتشوف له نفوسهم، والحال أنّ التجارة الرابحة تكمن في الإيمان بالله ورسوله والجهاد بالأموال والأنفس في سبيله لنيل مرضاته ومغفرته ودخول جناته. قال تعالى في محكم تنزيله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) ) (سورة الصف).
وقد يكون فيه شفاء لما في صدور المؤمنين من ألم وغيظ وقهر من أعدائهم. قال تعالى:(..وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)) (سورة التوبة).
من أجل ذلك كان النصر نعمة كبرى ومنحة من الله لمن يشاء من عباده المخلصين العاملين المستحقين لهذا الفضل منه عز وجلّ.

النصر منحة من الله له شروطه

النصر منحة من الله تعالى لعباده المؤمنين الصادقين في نصرتهم له. قال الله تعالى:( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر؛ ولله عاقبة الأمور) (سورة الحج)
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره . . فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصر الله ، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟. إنهم هؤلاء: (الذين إن مكناهم في الأرض). . فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر :
1. (أقاموا الصلاة). . فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين . .
2. (وآتوا الزكاة). . فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحي.
3. (وأمروا بالمعروف). . فدعوا إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس . .
4. (ونهوا عن المنكر). . فقاوموا الشرّ والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه…
هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه . وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين.
فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته . المشروط بتكاليفه وأعبائه . . والأمر بعد ذلك لله ، يصرّفه كيف يشاء ، فيبدل الهزيمة نصرا ، والنصر هزيمة ، عندما تختل القوائم ، أو تهمل التكاليف: (ولله عاقبة الأمور)..
إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة. من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح . المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات ، والمطامع والشهوات..

لماذا قد يبطئ النصر؟

نصر الله لعباده المؤمنين قد يبطئ لأسباب متعددة، فالله عز وجل قد تعهد بالدفاع عن المؤمنين كما في قوله عز من قائل : ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور) (سورة الحج) ؛ ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه، ظاهر حتما على عدوه . . ففيم إذن يكتب عليهم الجهاد ؟ وفيم إذن يجاهدون فيصيبهم الجهد والمشقة ، والتضحية والآلام . . . والعاقبة معروفة، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا تضحية ولا ألم؟
والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا ، وأن لله الحجة البالغة . . والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنزل عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء ، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء !
نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة، وأن يرتلوا القرآن، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء. ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ؛ إنما هي الزاد الذي يتزودون به للمعركة . والذخيرة التي يدخرونها للموقعة ، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله .
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة . فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر؛ وهي تدفع وتدافع ، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة . . عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها ؛ ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة ؛ ولتؤتي أقصى ما تملكه ، وتبذل آخر ما تنطوي عليه ؛ وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال .
والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، وتحفز كل استعدادها ، وتجمع كل طاقاتها ، كي يتم نموها ، ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء، والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين، يعطل تلك الطاقات عن الظهور، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها.
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه. أولا لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة. وثانيا لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تحشد طاقاتهم وتشحذ لكسبه . فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه .
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة، والكر والفر ، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر . ومن المشاعر المصاحبة لها . . من الأمل والألم . ومن الفرح والغم ، ومن الاطمئنان والقلق . ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة . . ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة، وتدبير الأمور في جميع الحالات . . وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس .
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله . . جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .
والنصر قد يبطئ على الذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله . فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله:
• قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا !
• وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد ، فلا تستبقي عزيزا ولا غالبا ، لا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله .
• وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .
• وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل ؛ ولا تجد لها سندا إلا الله ، ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .
• وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها. والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله ، بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى . فأيها في سبيل الله . فقال:” من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ” .
• كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصا ، ويذهب وحده هالكا ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار !
• وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية !
• وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار. فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه!
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر ، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية .

إذا جاء نصر الله…
جاء الإسلام، الدين الخاتم، بأكبر توجيه للمسلمين عندما يمنّ الله عليهم بنصره، وذلك في سورة من قصار السور، جليلة القدر، وشديدة الخطورة. قال تعالى:( إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)) (سورة النصر).
في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص ، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث ، وما يقع في هذه الحياة من حوادث . وعن دور الرسول صلى الله عليه وسلم ودور المؤمنين في هذه الدعوة ، وحدهم الذي ينتهون إليه في هذا الامر . . هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله . . .) . . فهو نصر الله يجيء به الله: في الوقت الذي يقدره . في الصورة التي يريدها . للغاية التي يرسمها . وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء، وليس لهم في هذا النصر يد . وليس لأشخاصهم فيه كسب . وليس لذواتهم منه نصيب . وليس لنفوسهم منه حظ ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم. وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم ، وأن يقيمهم عليه حراسا ، ويجعلهم عليه أمناء . . هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجا . .
وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم . إن شأنه – ومن معه – هو الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار:
• التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه. وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران .
• والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل:
– الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة الظفر بعد طول العناء . هو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري. فمن هذا يكون الاستغفار.
– والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي، والشدة الطاغية والكرب الغامر . . من ضيق بالشدة ، واستبطاء لوعد الله بالنصر، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر:(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب) فمن هذا يكون الاستغفار .
– والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره . فجهد الإنسان – مهما كان – ضعيف محدود، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان . . (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). . فمن هذا التقصير يكون الاستغفار . .
– وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار . . ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز . فأولى أن تطامن من كبريائها ، وتطلب العفو من ربها . وهذا يصدّ قوى الشعور بالزهو والغرور . .
– ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين . ليرقب المنتصر الله فيهم ، فهو الذي سلّطه عليهم ، وهو العاجز القاصر المقصر . وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو. والنصر نصره ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور .
إنه الأفق الوضيء الكريم ، الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه، وترقى في مدارجه ، على حدائه النبيل البار . الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه ، وترف فيه روحه طليقة لانها تعنو لله !
إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحا من روح الله . ليس لها حظ في شيء إلا رضاه . ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق؛ وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة ؛ وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة ، بانية عادلة خيرة ، . . الاتجاه فيها إلى الله.
وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيد برغباته ، مثقل بشهواته. عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه ، ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده .
وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاق ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما . .
كان هذا أدب محمد صلى الله عليه وسلم في حياته كلها ، وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له . . انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة . مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة . . فلما أن جاءه نصر الله والفتح ، نسي فرحة النصر وانحنى انحناءة الشكر ، وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه ، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار . وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده، رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله ، وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت ، وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق . .

فإذا فرغت فانصب …

قال الله تعالى: ( فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8)) (سورة الشرح).
قال صاحب «الظلال» معلقا على هذه الآيات الكريمة بقوله: “فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض ، ومع شواغل الحياة . . إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد . . العبادة والتجرد والتطلع والتوجه. .(وإلى ربك فارغب) إلى ربك وحده خاليا من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم . . إنه لا بد من الزاد للطريق . وهنا الزاد . ولا بد من العدة للجهاد . وهنا العدة . . وهنا ستجد يسرا مع كل عسر ، وفرجا مع كل ضيق . . هذا هو الطريق ! “
أما صاحب «التنوير والتحرير» فيقول معلقا عليها: “ولم يذكر هنا متعلق (فرغت)، وسياق الكلام يقتضي أنه لازم أعمال يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة وما يحف بها. فالمعنى إذا أتممت عملا من مهام الأعمال فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ” ويضيف: ” وتقديم ( فإذا فرغت) على (فانصب) للاهتمام بتعليق العمل بوقت الفراغ من غيره لتتعاقب الأعمال. وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني.”
أما المرحوم سعيد حوى صاحب «الأساس في التفسير» فيقول: ” قال النسفي : (أي : إذا فرغت من دعوة الحق فاجتهد في عبادة الرب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، واختلف أنه قبل السلام أو بعده، ووجه الاتصال بما قبله أنه لما عدّد عليه نعمه السالفة، ومواعيده الآتية بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض، ولا يخلي وقتا من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى). وقال ابن كثير: (أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة..). وقال زيد بن أسلم والضحاك: (فإذا فرغت) أي: من الجهاد؛ (فانصب) أي : في العبادة. (وإلى ربك فارغب) قال الثوري: اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عز وجل”. ا.هـ.
والخلاصة: أنّ المؤمن، ولاسيما الداعية منهم، صاحب قضية، وحياته كلها جدّ وكدّ، لا يفرغ من عمل هو بصدده (أي بعد أن يتمّه ويبلغ به مداه) إلا وينصرف إلى عمل آخر مفيد، يجعله في صلة متينة بربه، لا غاية له به إلا رضا ربه عنه، ولا يبتغي بكل أعماله إلا وجهه سبحانه وتعالى، وليس دنيا يصيبها، أو منصب يتولاه، أو أصحاب نفوذ يتزلف إليهم ويتقرب منهم. وهل هناك من شيء يرغب فيه النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه من بعده إلا الكمال النفساني وانتشار الدين ونصرة المسلمين؟. وهل يتأتى ذلك إلا ببذل الجهد وإتباع الفعل بالعمل، والانتقال عند الفراغ من مهمة إلى أخرى تثبت القلب والجنان وتقوي العزيمة وتزيد النصر رسوخا واستمرارا؟.
والله تعالى أعلم.

د. جلال الدين رويس

facebook

اترك تعليق